الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن أحد شروع في بيان حكم المتصدين لمبادئ التوبة من سماع كلام الله تعالى والوقوف على شعائر الدين إثر بيان حكم التائبين عن الكفر والمصرين عليه ، وفيه إزاحة ما عسى يتوهم من قوله سبحانه : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) [ ص: 53 ] إذ الحجة قد قامت عليهم وأن ما ذكره عليه الصلاة والسلام قبل من الدلائل والبينات كاف في إزالة عذرهم بطلبهم للدليل لا يلتفت إليه بعد و ( إن ) شرطية والاسم مرفوع بشرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء، ومن زعم ذلك فقد أخطأ كما قال الزجاج لأن إن لكونها تعمل العمل المختص بالفعل لفظا أو محلا مختصة به فلا يصح دخولها على الأسماء أي وإن استجارك أحد ( من المشركين استجارك ) أي استأمنك وطلب مجاورتك بعد انقضاء الأجل المضروب ( فأجره ) أي فآمنه ( حتى يسمع كلام الله ) ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه، والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل اللسن والفصاحة ، والمراد بكلام الله تعالى الآيات المشتملة على ما يدل على التوحيد ونفي الشبه والشبيه ، وقيل : سورة براءة ، وقيل : جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه ، و ( حتى ) للتعليل متعلقة بما عندها ، وليست الآية من التنازع على ما صرح به الفاضل ابن العادل حيث قال : ولا يجوز ذلك عند الجمهور لأمر لفظي صناعي لأنا لو جعلناها من ذلك الباب وأعلمنا الأول أعني استجارك لزم إثبات الممتنع عندهم وهو إعمال حتى في الضمير فإنهم قالوا : لا يرتكب ذلك إلا في الضرورة كما في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      فلا والله لا يلقى أناس فتى حتاك يا ابن أبي زياد



                                                                                                                                                                                                                                      ضرورة أن القائلين بإعمال الثاني يجوزون إعمال الأول المستدعي لما ذكر سيما على مذهب الكوفيين المبني على رجحان إعماله ومن جوز إعماله في الضمير يصح ذلك عنده لعدم المحذور حينئذ ، ويفهم ظاهر كلام بعض الأفاضل جواز التعلق باستجارك حيث قال : لا داعي لتعلقه بأجره سوى الظن أنه يلزم أن يكون التقدير على تقدير التعلق بالأول وإن أحد من المشركين استجارك حتى يسمع كلام الله فأجره حتاه أي حتى السمع، وهل يقول عاقل بتوقف تمام قولك إن استأمنك زيد لأمر كذا فآمنه على أن تقول لذلك الأمر كلا فرضنا الاحتياج ولزوم التقدير ولكن ما الموجب لتقدير حتاه الممتنع في غير الضرورة ولم لا يجوز أن يقدر لذلك أوله أو حتى يسمعه أو غير ذلك مما في معناه ، وقال آخر : إن لزوم الإضمار الممتنع على تقدير إعمال الأول لا يعين إعمال الثاني فلا يخرج التركيب من باب التنازع بل يعدل حينئذ إلى الحذف فإن تعذر أيضا ذكر مظهرا كما يستفاد من كلام نجم الأئمة وغيره من المحققين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يقال : إن المانع من كونه من باب التنازع أنه ليس المقصود تعليل الاستجارة بما ذكر كما أن المقصود تعليل الإجارة به ، نعم قال شيخ الإسلام : إن تعلق الإجارة بسماع كلام الله تعالى يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو ما في معناه من أمور الدين ، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتاه رجل من المشركين فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله تعالى أو لحاجة قتل؟ قال : لا ، لأن الله تعالى يقول : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) إلخ فالمراد بما فيه من الحاجة هي الحاجة المتعلقة بالدين لا ما يعمها وغيرها من الحاجات الدنيوية كما ينبئ عنه قوله: أن يأتي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فإن من يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين انتهى ، لكنه ليس بشيء لأن الظاهر من كلام ذلك القائل العموم، فيكون جواب الأمير كرم الله تعالى وجهه مؤيدا لما قلناه ، ويرد على قوله قدس سره أن يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين منع ظاهر فلا يتم بناء الأنباء ، وجوز غير واحد كون حتى للغاية والخبر المذكور وجزالة المعنى يشهدان بكونها للتعليل، بل قال المولى سري الدين المصري : [ ص: 54 ] إن جعلها للغاية يأباه قوله تعالى : ( ثم أبلغه ) بعد سماعه، وكلام الله تعالى إن لم يؤمن ( مأمنه ) أي : مسكنه الذي يأمن فيه أو موضع أمنه وهو ديار قومه على أن المأمن اسم مكان أو مصدر بتقدير مضاف والأول أولى لسلامته من مؤنه التقدير ، والجملة الشرطية على ما بينه في " الكشف " عطف على قوله سبحانه : ( فاقتلوا المشركين ) ولا حجة في الآية للمعتزلة على نفي الكلام النفسي لأن السماع قد ينسب إليه باعتبار الدال عليه أو يقال : إن الكلام معقول بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز على الكلام النفسي والكلام اللفظي، ولا يلزم من تعين أحدهما في مقام نفي ثبوت الآخر في نفس الأمر ، وقد تقدم في المقدمات من الكلام ما يتعلق بهذا المقام فتذكر ( ذلك ) أي : الأمن أو الأمر ( بأنهم ) أي بسبب أنهم ( قوم لا يعلمون ) ما الإسلام وما حقيقة ما تدعوهم إليه أو قوم جهلة فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا ذلك، ولا يبقى لهم معذرة أصلا ، والآية كما قال الحسن محكمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة أنها منسوخة بقوله تعالى : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) وروي ذلك عن السدي ، والضحاك أيضا وما قاله الحسن أحسن ، واختلف في مقدار مدة الإمهال فقيل : أربعة أشهر وذكر النيسابوري أنه الصحيح من مذهب الشافعي ، وقيل : مفوض إلى رأي الإمام ولعله الأشبه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية