الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولكونه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون المؤمنين أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالجواب بقوله سبحانه: قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا أي لا أقدر على شيء منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم الكريم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فللتعميم إظهارا لكمال العجز وقيل: إنه استطرادي لئلا يتوهم اختصاص ذلك بالضر والأول أولى وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع فللإشعار بأهميته والمقام مقامه والمعنى لا أملك شيئا من شؤوني ردا وإيرادا مع أن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شؤونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود حسبما تريدون إلا ما شاء الله استثناء منقطع عند جمع أي ولكن ما شاء الله تعالى كائن وقيل: متصل على معنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه وتعقب بأنه يأباه مقام التبرئ عن أن يكون له صلى الله تعالى عليه وسلم دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعي بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء أن يملكه عليه الصلاة والسلام: والمعتزلة قالوا باتصال الاستثناء واستدلوا بذلك على أن العبد مستقل بأفعاله من الطاعات والمعاصي وأنت تعلم أن ذلك بمراحل عن إثبات مدعاهم نعم استدل بها بعض من يرى رأي السلف من أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا أنه ليس له قدرة أصلا كما يقوله الجبرية ولا أن له قدرة لكنها غير مؤثرة كما هو المشهور عن الأشاعرة ولا أن له قدرة مؤثرة إن شاء الله تعالى وإن لم يشأ كما هو رأي المعتزلة وقال: المعنى لا أقدر على شيء من الضر والنفع إلا ما شاء الله تعالى أن أقدر عليه منهما فإني أقدر عليه بمشيئته سبحانه وقال بعضهم: إذا كان الملك بمعنى الاستطاعة يكون الاستثناء متصلا وإذا أبقي على ظاهره تعين الانقطاع ولا يخفى أن الأصل الاتصال ولا ينبغي العدول عنه حيث أمكن من دون تعسف وأيا ما كان فظاهر كلامهم أن الاستثناء من المفعول إلا أنه على تقدير الانقطاع ليس المعنى على إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه ولذا جعل الحكم على ذلك التقدير أنه كائن دون أملكه مثلا فلا تدافع في كلام من حكم بالانقطاع وقال [ ص: 131 ] في بيان المعنى أي ولكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن مشيرا بذلك إلى النفع والضر فإنه صريح في كون المستثنى من جنس المستثنى منه المقتضي للاتصال لأن المدار عند المحققين في الأمرين على الإخراج من الحكم وعدمه

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يقضي منه العجب زعم أن الاستثناء من فاعل لا أملك وجعل المعنى لا أملك أنا ولكن الله سبحانه هو المالك لكل ما يشاء يفعله بمشيئته لكل أمة من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسلهم أجل لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى إذا جاء أجلهم أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر، ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير والإضافة لإفادة كمال التعيين وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة ووجه إظهار الأجل مضافا لذلك بأنه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بإضافته عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها ويفسر الأجل بحد معين من الزمان والمجيء عليه ظاهر وبما امتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذ عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وانقضى أجلهم الخاص بهم فلا يستأخرون عنه ساعة أي شيئا قليلا من الزمان ولا يستقدمون 49 عليه والاستفعال عند جمع على أصله ونفي طلب التأخر والتقدم أبلغ وقال آخرون: إنه بمعنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على (لا يستأخرون) لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجيء الأجل فلا فائدة في نفيه وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في انتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه قيل: وهذا هو السر في إيراد صيغة الاستفعال أي أنه بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب ودفع بعضهم ذلك بأن جاء بمعنى قارب المجيء نحو قولك: إذا جاء الشتاء فتأهب له . وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الاستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي:

                                                                                                                                                                                                                                      وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متقدم عنه ولا متأخر

                                                                                                                                                                                                                                      فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك ووجه تقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانا باستقلالها فيه . قال العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه: إن الجواب بقوله سبحانه: قل لا أملك إلخ وارد على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى وأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكما وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود: إذا كنت مقرا بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا كيف أدعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تهكمهم واستبعادهم فقال: لكل أمة أجل إلخ وحاصله على ما في الكشاف إن عذابكم له أجل مضروب [ ص: 132 ] عند الله تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة فلا تستعجلوا ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من إذا جاء أجلهم وزيادتها في فلا يستأخرون على عكس آية الأعراف حيث أتي بها أولا ولم يؤت بها ثانيا وذلك أنه لما سيقت الآية جوابا عن استعجالهم العذاب الموعود حسبما علمت آنفا اعتني بأمر الشرطية ولزومها كمال الاعتناء فأتي بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوى لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لا يخفى إلا على الأنعام فاحفظه فإنه من الأنفال ولا يأباه ما مر في تقرير الاستفهام في صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذه الآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرا منجزا غير متوقف على شيء غير مجيء الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه ما فيه نكار المدخلية في الجواب ولعل الغرض يتم بمجرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الآيتين به أيضا وقد يقال: إن إسقاط الفاء أولا لتكون الجملة في موضع الصفة - لأجل - تهويلا لأمره وتنويها بشأنه حسبما يقتضيه المقام أي لكل أمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون عليه البتة والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفا وليس بذاك ومما تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضى عليه فكرا من أن السر في اختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه الله تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلما للعربية مبينا لقواعدها وشارحا لما يجوز فيها وما لا يجوز بل نزل معجزا بفصاحته وبلاغته وما تضمنه من الأسرار أقواما كل منهم في ذلك الشأن -الجذيل المحكك والعذيق المرجب

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة والسلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ولتلقينه صلى الله تعالى عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السياق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهما في إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر الشرطية وجيء بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة وآية الأعراف سيقت وعيدا لأهل مكة ومن البين أن محط الفائدة في إشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون لكل أمة أجل فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجيء بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن باتحاد الجملتين في كونهما وعيدا ولمسامحته سبحانه في الوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة والله تعالى أعلم بأسرار كتابه

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية