الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك بعثناهم أي: كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      ليتساءلوا بينهم أي: ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة، وجعل علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق، قيل: من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره، وجعل غير واحد اللام للعاقبة، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال استئناف لبيان تساؤلهم قائل منهم قيل: هو كبيرهم مكسلمينا، وقيل: صاحب نفقتهم يمليخا كم لبثتم أي: كم يوما أقمتم نائمين، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة، وقيل: راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك. قالوا أي: قال بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم أو للشك كما قاله غير واحد، والمراد: لم نتحقق مقدار لبثنا؛ أي: لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وقيل: فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض، ومن هنا قيل إن «أو» للإضراب، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر: لبثنا يوما ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا: أو بعض يوم وأنت تعلم أن الظاهر أنها لك، والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه، نعم هو في ذلك مجاز، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى: قال بعضهم: لبثنا يوما، وقال آخرون: لبثنا بعض يوم، وقول كل مبني على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا، ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: «كل ذلك لم يكن». قالوا أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو إلهاما: ربكم أعلم بما لبثتم أي: أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقيل: قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم؛ فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا: ربنا أعلم بما لبثنا فابعثوا أحدكم أي: واحدا منكم ولم يقل: واحدكم لإيهامه إرادة سيدكم فكثيرا ما يقال: جاء واحد القوم ويراد سيدهم بورقكم أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين، وقيل: الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة، واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفا من ورق فأنتن فاتخذ أنفا من ذهب، فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق [ ص: 230 ] على غير المضروب من الفضة، وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي: الورق في الحديث بفتح الراء، والمراد به الورق الذي يكتب فيه؛ لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه، والمنتن الذي ذكره لا صحة له، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان: «بورقكم» بإسكان الراء، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن، وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حده كما في الرواية الأخرى، وبهذا اعترض عليها، وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ، وقد قرئ: «نعما» بسكون العين والإدغام، وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهو، وحكى الزجاج أنه قرئ بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «بوارقكم» على وزن فاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      جعله اسم جمع كباقر وحامل، ووصف الورق بقوله تعالى: هذه يشعر بأن القائل أحضرها ليناولها بعض أصحابه، وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد، وفي حملهم لها دليل على أن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله تعالى كما في الحديث «اعقلها وتوكل».

                                                                                                                                                                                                                                      نعم قال بعض الأجلة: إن توكل أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نص الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوي يقينه وتوكله، وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام حين عرض له جبريل عليه السلام يوم ألقي في النار وقال له: ألك حاجة؟ أما إليك فلا، وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط، كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      إلى المدينة المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها، قيل: وتسمى الآن طرسوس، وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس، وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين، وكان هذا القول صدر منهم إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبئ عنه الفاء، وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي     فقلت كأني ما سمعت كلامها
                                                                                                                                                                                                                                      هم الضيف جدي في قراهم وعجلي



                                                                                                                                                                                                                                      فلينظر أيها أزكى طعاما أي: أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير، وقال الضحاك: إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة، فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية، وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة، وقال ابن السائب ومقاتل: أي: أطيب، فإن كان بمعنى «أحل» لأنه يطلق عليه رجع إلى الأول، وإن كان بمعناه المتبادر فالزيادة قيل: حسية دنيوية، وقال عكرمة: أي: أكثر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال يمان بن ريان: أي: أرخص، وقال قتادة: أي: أجود؛ وهو أجود، وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون [ ص: 231 ] الزيادة حسية دنيوية أيضا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب، وحسن الظن بالفتية يقتضي أنهم تحروا الحلال، والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين، وأي استفهام مبتدأ و أزكى خبره، والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون «أي» موصولا مبنيا مفعولا لينظر و أزكى خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة، والكلام على تقدير مضاف، أي: أي أهلها وإما للمدينة مرادا بها أهلها مجازا، وفي الكلام استخدام ولا حذف، وإما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل: فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعاما فليأتكم برزق منه أي: من ذلك الأزكى طعاما فمن لابتداء الغاية أو التبعيض، وقيل: الضمير للورق فيكون «من» للبدل، ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصا به عندنا.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بالآية وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل، نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وليتلطف أي: وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا، وقيل: ليتكلف ذلك كي لا يغبن فيكون قوله تعالى: ولا يشعرن بكم أحدا أي: لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسا على هذا، وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو: لا أرينك هاهنا، وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدا فهو على ظاهره، وقرأ الحسن: «وليتلطف» بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال: «وليتلطف» بضم الياء مبنيا للمفعول. وقرأ هو وأبو صالح ويزيد بن القعقاع: «ولا يشعرن بكم أحد» ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية