الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقال الذين كفروا حكاية لنوع آخر من أباطيلهم، والمراد بهم المشركون كما صح عن ابن عباس ، وهم القائلون أولا، والتعبير عنهم بعنوان الكفر لذمهم به والإشعار بعلة الحكم، وقيل: المراد بهم طائفة من اليهود لولا نزل عليه القرآن أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر فلا قصد فيه إلى التدريج [ ص: 15 ] لمكان جملة واحدة فإنه لو قصد ذلك لتدافعا، إذ يكون المعنى لولا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية، وقيل: عبر بذلك للدلالة على كثرة المنزل في نفسه، ونصب جملة على الحال وواحدة على أنه صفة مؤكدة له، أي هلا أنزل القرآن عليه - عليه الصلاة والسلام - دفعة غير مفرق، كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور على ما تدل عليه الأحاديث والآثار، حتى كاد يكون إجماعا كما قال السيوطي، ورد على من أنكر ذلك من فضلاء عصره، فقول ابن الكمال : إن التوراة أنزلت منجمة في ثماني عشرة سنة - ويدل عليه نصوص التوراة ولا قاطع بخلافه من الكتاب والسنة - ناشئ من نقصان الاطلاع.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الاعتراض مما لا طائل تحته؛ لأن الإعجاز مما لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد، منها ما ذكره الله تعالى بعد، وقيل: إن شاهد صحة القرآن إعجازه وذلك ببلاغته وهي بمطابقته لمقتضى الحال في كل جملة منه، ولا يتيسر ذلك في نزوله دفعة واحدة، فلا يقاس بسائر الكتب فإن شاهد صحتها ليس الإعجاز، وفيه أن قوله: ولا يتيسر إلخ، ممنوع، فإنه يجوز أن ينزل دفعة واحدة مع رعاية المطابقة المذكورة في كل جملة لما يتجدد من الحوادث الموافقة لها الدالة على أحكامها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد صح أنه نزل كذلك إلى السماء الدنيا، فلو لم يكن هذا لزم كونه غير معجز فيها ولا قائل به، بل قد يقال: إن هذا أقوى في إعجازه، والبليغ يفهم من سياق الكلام ما يقتضيه المقام، فافهم.

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك لنثبت به فؤادك استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم الباطلة، وبيان بعض الحكم في تنزيله تدريجا، ومحل الكاف نصب على أنها صفة لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما بعده، وجوز نصبها على الحالية، «وذلك» إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي تنزيلا مثل ذلك التنزيل الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه لا تنزيلا مغايرا له، أو نزلناه مماثلا لذلك التنزيل لنقوي به فؤادك؛ فإن في تنزيله مفرقا تيسيرا لحفظ النظم، وفهم المعاني، وضبط الكلام، والوقوف على تفاصيل ما روعي فيه من الحكم والمصالح، وتعدد نزول جبريل - - عليه السلام - - وتجدد إعجاز الطاعنين فيه في كل جملة مقدار أقصر سورة تنزل منه، ولذلك فوائد غير ما ذكر أيضا، منها معرفة الناسخ المتأخر نزوله من المنسوخ المتقدم نزوله المخالف لحكمه، ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية، فإنه يعين على معرفة البلاغة؛ لأنه بالنظر إلى الحال يتنبه السامع لما يطابقها ويوافقها إلى غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: قوله تعالى: كذلك من تمام كلام الكفرة، والكاف نصب على الحال من القرآن أو الصفة لمصدر (نزل) المذكور أو لـ(جملة)، والإشارة إلى تنزيل الكتب المتقدمة، ولام لنثبت لام التعليل، والمعلل محذوف، نحو ما سمعت أولا، أي نزلناه مفرقا لنثبت إلخ، وقال أبو حاتم : هي لام القسم، والتقدير: والله لنثبتن، فحذف النون، وكسرت اللام، وقد حكى ذلك عنه أبو حيان ، والظاهر أنها عنده كذلك على القولين في ( كذلك ) وتعقبه بأنه قول في غاية الضعف، وكأنه ينحو إلى مذهب الأخفش إن جواب القسم يتلقى بلام كي، وجعل منه «ولتصغى إليه أفئدة» إلخ، وهو مذهب مرجوح، وقرأ عبد الله «ليثبت» بالياء أي ليثبت الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ورتلناه ترتيلا عطف على الفعل المحذوف المعلل بما ذكر، وتنكير «ترتيلا» للتفخيم أي: كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لا يقادر قدره، وترتيله تفريقه آية بعد آية، قاله النخعي والحسن وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس : بيناه بيانا فيه ترسل، وقال السدي : فصلناه تفصيلا، وقال مجاهد : جعلنا بعضه إثر بعض، وقيل: هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى: ورتل القرآن ترتيلا وقيل: قرأناه عليك بلسان جبريل [ ص: 16 ] - عليه السلام - شيئا فشيئا في عشرين أو في ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل، وهو مأخوذ من قولهم: ثغر مرتل أي مفلج الأسنان غير متلاصقها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية