الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ورسولا إلى بني إسرائيل منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفا على " يعلمه " أي ونجعله رسولا وهو الذي اختاره أبو حيان، وقيل: إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على يعلمه، أي ويقول عيسى أرسلت رسولا، ولا يخفى أن عطف هذا القول على " يعلمه " إذا كان مستأنفا مما ليس فيه كثير بأس، وأما على تقدير عطفه على يبشرك أو يخلق فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير إن الله يبشرك أو إن الله يخلق ما يشاء ويقولعيسى كذا، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم، وفي «البحر»: إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة; واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى [ ص: 167 ] النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه وجيها ورسولا ناطقا بكذا، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور، وفعول هنا بمعنى مفعل، واحتمال أن يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      أبلغ أبا سلمى (رسولا) تروعه

                                                                                                                                                                                                                                      ويجعل معطوفا على " الكتاب " أي، ويعلمه رسالة - بعيد لفظا ومعنى، أما الأول: فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية، وأما ثانيا: فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم، والظرف إما متعلق ب (رسولا) أو بمحذوف وقع صفة له، أي رسولا كائنا إلى بني إسرائيل، أي كلهم، قيل: وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد، وليس ذلك في الكتب المشهورة والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان: فرقة ترميه وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها وهم أكثر اليهود، وفرقة يقال لهم (العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته، ويقولون: إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام، ومن بني إسرائيل المتعبدين وليس برسول ولا نبي، ويقولون: إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخرا ولم يعرفوا مرامه ومغزاه) نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية أصحاب أبي عيسى إسحق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم (بعرقيد الوهيم) يزعمون: أن لله تعالى رسولا بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد وأن صاحبهم هذا، أحد رسله وكل من هذه الأقوال بعيد عما ادعاه صاحب القيل بمراحل ولعله وجد ما يوافق دعواه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام، فقيل: في الصبا وهو ابن ثلاث سنين، وفي «البحر»: أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين، قيل: وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف، وقيل: موسى وآخرهم عيسى على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وقرأ اليزيدي (ورسول) بالجر على أنه معطوف على (كلمة) أي يبشرك بكلمة وبرسول.

                                                                                                                                                                                                                                      أني قد جئتكم معمول ل (رسولا) لما فيه من معنى النطق، وجوز أبو البقاء كونه معمولا لمحذوف وقع صفة ل (رسولا) أي رسولا ناطقا أو مخبرا بأني، وكونه بدلا من (رسولا) إذا جعلته مصدرا أي ونعلمه أني قد جئتكم، أو خبرا لمبتدأ محذوف على تقدير المصدرية أيضا، أي هو أني، فالمنسبك إما في محل جر أو نصب أو رفع، وقوله تعالى: بآية في موضع الحال أي محتجا أو متلبسا بآية، أو متعلق ب (جئتكم) والباء للملابسة أو للتعدية، والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها، وقرئ (بآيات).

                                                                                                                                                                                                                                      من ربكم متعلق بمحذوف وقع صفة لآية، وجوز تعلقه ب (جئت) ، و (من) في التقديرين لابتداء الغاية مجازا، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الأوامر، أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير بدل من قوله سبحانه: أني قد جئتكم أو من (آية) أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني، أو مرفوع على [ ص: 168 ] أنه خبر لمقدر أي: هي أني الخ; وقرأ نافع (إني) بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم كما يشير إليه ذكر المادة، والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق، وقيل: إنها اسم لحال الشيء وليست مصدرا وإنما المصدر الهيء والتهيؤ فهي على الأول: جوهر، وعلى الثاني: عرض، وفسروها بالكيفية الحاصلة من إحاطة الحد الواحد أو الحدود بالجسم، والمعنى أني أقدر لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته، والكاف إما اسم كما ذهب إليه أبو الحسن في موضع نصب على المفعولية ل (أخلق) أو نعت لمفعول محذوف له، وإما حرف كما ذهب إليه الجمهور فتتعلق بمحذوف وقع نعتا أيضا لما وقع هو نعتا له على تقدير الاسمية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يزيد وحمزة (كهية) بتشديد الياء، وكان ابن المقسم يقول: بلغني أن خلفا يقول: إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها، وقرأ أهل المدينة ويعقوب (الطائر) ومثله في المائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      فأنفخ فيه الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشيء المهيأ لا بمعنى العرض القائم به، إذ لا يصح أن يكون ذلك محلا للنفخ، وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ، قيل: وصح هذا لعدم الإلباس، ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناء على أنها اسم، ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها، واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت ب كالأسد وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود، وقرئ فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      فيكون طيرا حيا طيارا كسائر الطيور، وقرأ المفضل (فتكون) بتاء التأنيث، ويعقوب وأبو جعفر ونافع (طائرا) .

                                                                                                                                                                                                                                      بإذن الله متعلق ب (يكون) أو ب (طيرا) والمراد بأمر الله، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه السلام، وهو روح محض كما قيل بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء، قيل: وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول، قالوا: إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا: ساحر، وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا، ويحيض ويلد ويطير بغير ريش، وله آذان وثدي وضرع ويخرج منه اللبن، ويرى ضاحكا كما يضحك الإنسان، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة، وقيل: خلق أنواعا من الطير، وذهب بعضهم إلى الثاني فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أن عيسى عليه السلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا: أو تستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: كن طائرا بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      وأبرئ الأكمه عطف على أخلق فهو [ ص: 169 ] داخل في حيز (إني) والأكمه هو الذي ولد أعمى، أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة، قيل ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب «التفسير»، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وعن عكرمة أنه الأعمش، أي: أخلص الأكمه من الكمه.

                                                                                                                                                                                                                                      والأبرص وهو الذي به الوضح المعروف، وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء، وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغة، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما فقد روي أنه عليه السلام أبرأ أيضا غيرهما، وروي عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام فمشى إليه، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم: "اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم، إنك على كل شيء قدير»، ومن خواص هذا الدعاء كما قال وهب أنه إذا قرئ على الفزع والمجنون وكتب له وسقي منه نفع إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأحيي الموتى بإذن الله عطف على خبر (إني)، وقيد الإحياء بالإذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله، لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه يا حي يا قيوم، وخبر «إنه كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى: تبارك الذي بيده الملك ، وفي الثانية: تنزيل السجدة، فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد» قال البيهقي: ليس بالقوي، وقيل: إنه كان إذا أراد أن يحيي ميتا ضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة فيحيا بإذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج محيي السنة عن ابن عباس أنه قال: قد أحيا عليه السلام أربعة أنفس: عازر، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره، وبقي زمانا وولد له، وأما ابن العجوز فمر به ميتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زمانا وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت الأمس فدعا الله تعالى وأحياها وبقيت زمانا وولد لها، وأما سام بن نوح فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعا باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: أقد قامت الساعة؟ [ ص: 170 ] قال: لا، ولكن دعوتك باسم الله تعالى الأعظم ثم قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل، وفي بعض الآثار أن إحياءه ساما كان بعد قولهم له عليه السلام إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون، فقالوا: هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون، وقد ورد أيضا أنه عليه السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة، وأحيا خشفا وشاة وبقرة، ولفظ الموتى يعم كل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم (ما) في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أي تأكلونه وتدخرونه، والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع، والادخار الخبء، وأصل تدخرون تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت، ومن العرب من يقلب التاء دالا ويدغم، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الأخبار، وقيل: قبل، فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا، فيذهب الغلام منهم إلى أمه، فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي، فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا، فتقول: من أخبرك؟! فيقول: عيسى ابن مريم، فقالوا: والله لإن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم، فقال: ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان؟ قالوا: لا، إنما هي قردة وخنازير، قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير، فكانوا كذلك، وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال: وأنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فجعلوا قردة وخنازير، ويمكن أن يقال: إن كل ذلك قد وقع وعلى سائر التقادير، فالمراد الإخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر، وقيل: المراد الإخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها، ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس، فليفهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ (تذخرون) بالذال المعجمة والتخفيف.

                                                                                                                                                                                                                                      إن في ذلك أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة، وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه، وقيل: هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ لآية أي جنسها، وقرئ لآيات، (لكم) دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا يعلم أن علم الجفر وعلم الفلك ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها إنها علم غيب أبدا، إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجردا عن المواد والوسائط الكونية، وهذه العلوم ليست كذلك [ ص: 171 ] لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء، وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الإلهية والمنحة الأزلية، على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      إن كنتم مؤمنين [ 49 ] فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان، ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين، وجواب الشرط على التقديرين محذوف، أي انتفعتم بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية