الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أتدعون بعلا أي أتعبدونه، أو تطلبون حاجتكم منه، وهو اسم صنم لهم كما قال الضحاك والحسن ، وابن زيد، وفي بعض نسخ القاموس: أنه لقوم يونس، ولا مانع من أن يكون لهما، أو ذلك تحريف. قيل: وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به، وعظموه حتى [ ص: 140 ] أخدموه أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوفه، ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وقيل: هو اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها، واستؤنس له بقراءة بعضهم، (بعلاء) بالمد على وزن حمراء، وظاهر صرفه أنه عربي على القولين، فلا تغفل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عكرمة وقتادة : البعل الرب بلغة اليمن: وفي رواية أخرى عن قتادة بلغة أزد شنوءة وأستام ابن عباس: ناقة رجل من حمير، فقال له: أنت صاحبها؟ قال: بعلها، فقال ابن عباس : أتدعون بعلا: أتدعون ربا ممن أنت؟ قال: من حمير، والمراد عليه: أتدعون بعض البعول أي الأرباب، والمراد بها الأصنام أو المعبودات الباطلة، فالتنكير للتبعيض، فيرجع لما قيل قبله، وتذرون أحسن الخالقين أي وتتركون عبادته تعالى، أو طلب جميع حاجكم منه - عز وجل - على أن الكلام على حذف مضاف، وقيل: إن المراد بتركهم إياه سبحانه تركهم عبادته - عز وجل - والمراد بالخالق من يطلق عليه ذلك، وله بهذا الاعتبار إفراد، وإن اختلفت جهة الإطلاق فيها فلا إشكال في إضافة أفعل إلى ما بعده، وها هنا سؤال مشهور وهو ما وجه العدول عن (تدعون) بفتح التاء والدال مضارع ودع، بمعنى ترك إلى " تذرون " مع مناسبته ومجانسته لتدعون قبله دون تذرون؟ وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول أن في ذلك نوع تكلف والجناس المتكلف غير ممدوح عند البلغاء، ولا يمدح عندهم ما لم يجئ عفوا بطريق الاقتضاء، ولذا ذموا متكلفه فقيل فيه:


                                                                                                                                                                                                                                      طبع المجنس فيه نوع قيادة أوما ترى تأليفه للأحرف



                                                                                                                                                                                                                                      قاله الخفاجي ، وفي كون هذا البيت في خصوص المتكلف نظر وبعد فيه ما فيه، الثاني: أن في (تدعون) إلباسا على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول، ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعل ودعاء أحسن الخالقين، وليس بالوجه، إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما يلبس على العوام كما لا يخفى على الخواص.

                                                                                                                                                                                                                                      والصحابة أيضا لم يراعوهم، وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط، ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم، وفي بقاء الرسم العثماني معتبرا إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا، الثالث: أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل، وفيه بأنه وقع فيما نفاه قال تعالى: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ، وقال سبحانه: يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ، وفيهما الجناس التام ولا يخفى حال المقام، الرابع: ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك (تدعون) إلى " تذرون " فقال: ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعد ما علموا أن الله سبحانه ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا واستنكارا فلذلك قيل: وتذرون ولم يقل: وتدعون، وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم، وذر أمر بالترك بعده، ولا تساعده اللغة والاشتقاق، الخامس: أن لإنكار كل من فعلي دعاء بعل وترك أحسن الخالقين علة غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزا إلى شدة المغايرة بين الفعلين، السادس: أنه لما لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما، وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئا والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئا آخر، وكلا الجوابين كما ترى، السابع: أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه، لأنه من الدعة بمعنى الراحة، ويذر بخلافه، لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد، لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها. واعترض بأن المتبادر من قوله: بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك الذي [ ص: 141 ] يذم مرتكبه، فيرد عليه قوله تعالى - :" فذرهم وما يفترون " ، وقوله سبحانه وذروا ما بقي من الربا إلى غير ذلك، وفيه تأمل. الثامن: أن يدع أخص من يذر، لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع، فإنه ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها، ولهذا يختار لها من هو مؤتمن، ونحوه موادعة الأحباب، وأما يذر فمعناه الترك مطلقا، أو مع الإعراض والرفض الكلي، قال الراغب : يقال: فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به، ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفا، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول، إذ المراد تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم، وهو قريب من سابقه، لكنه سالم عن بعض ما فيه، التاسع: أن في تدعون، بفتح التاء والدال ثقلا ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم، وتذرون سالم عنه، فلذا اختير عليه، فتأمل والله تعالى أعلم، وقد أشار - سبحانه وتعالى - بقوله: أحسن الخالقين إلى المقتضي للإنكار المعني بالهمز، وصرح به للاعتناء بشأنه في قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية