الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا اسكتوا لنسمعه، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم فلما قضي أتم وفرغ عن تلاوته. وقرأ أبو مجلز وحبيب بن عبد الله (قضى) بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأيد بذلك عود ضمير حضروه إليه عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولوا إلى قومهم منذرين مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم، قيل: إنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل: من نينوى وهي أيضا من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة المكرمة. فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو وأصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا [ ص: 31 ] له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا: أنصتوا فلما قضى وفرغ صلى الله تعالى عليه وسلم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الصحيحين عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلى الله تعالى عليه وسلم بهم شجرة وكانوا على ما روي عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة. ثلاثة من أهل حران، وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وماصر والأردوانيان وسرق والأحقم. بميم آخره، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء، وذكر صاحب الروض بدل حسى ومسى منشئ وناشئ. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر: كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رسلا إلى قومهم، والخبر السابق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه، وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن علقمة قال: قلت لابن مسعود : هل صحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال: فخط لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: قم هاهنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلا طويلا حتى جاءني مع الفجر فقال لي: هل معك من وضوء قلت: نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: جن نصيبين.

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن، وقد أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن الحبر أنه قال: صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك، فقد أخرج أبو نعيم والواقدي عن كعب الأحبار قال: انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والأردوانيان والأحقب جاؤوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب فسلم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لساعة من الليل بالحجون.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: هم اثنا عشر ألفا من جزيرة الموصل، وفي الكشاف حكاية هذا العدد أيضا وأن السورة التي قرأها صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم اقرأ باسم ربك ، ونقل في [ ص: 32 ] البحر عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال: ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) قالوا: لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد، وأخرج أبو نعيم في الدلائل والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة وفي معناه ما قيل: كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مكث بمكة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء قالوا أي عند رجوعهم إلى قومهم يا قومنا إنا سمعنا كتابا جليل الشأن أنزل من بعد موسى ذكروه دون عيسى عليهما السلام لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن وكان عيسى عليه السلام مأمورا بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله، وقال عطاء : لأنهم كانوا على اليهودية ويحتاج إلى نقل صحيح، وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذا قالوا ذلك، وفيه بعد فإن اشتهار أمر عيسى عليه السلام وانتشار أمر دينه أظهر من أن يخفى لا سيما على الجن، ومن هنا قال أبو حيان : إن هذا لا يصح عن ابن عباس مصدقا لما بين يديه من التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة يهدي إلى الحق من العقائد الصحيحة وإلى طريق مستقيم من الأحكام الفرعية أو ما يعمها وغيرها من العقائد على أنه من ذكر العام بعد الخاص.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية