الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قلنا اهبطوا منها جميعا، كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال، والفاء في (فتلقى) للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة، وأنه يجب المبادرة إليها، ولا يمهل، فإنه ذنب آخر، مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام، وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم، وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم أولا للتعادي، وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني، وثانيا ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع الترديد، فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل : إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟ فلو لم يعد الأمر لعطف فإما يأتينكم على الأول، فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل على بعد أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان، ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقال الجبائي : إن الأول من الجنة إلى السماء، والثاني منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر ولكم في الأرض مستقر عقيب الأول، (وجميعا) حال من فاعل (اهبطوا) أي مجتمعين سواء كان في زمان واحد، أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأبعد ابن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف، أي هبوطا جميعا، فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لا يدخل في الخطاب غير المكلف، وأدرج الكثيرون إبليس لأنه مخاطب بالإيمان، والفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر، (وإما) مركبة من إن الشرطية (وما) الزائدة للتأكيد، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه : إن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجئ بما، وقد ورد ذلك في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      يا صاح أما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      إما أقمت وإما كنت مرتحلا     فالله يحفظ ما تبقي وما تذر

                                                                                                                                                                                                                                      وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة، وهو مما لا ضرورة إليه، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع، وهو الفعل يدفعه أن التابع ومؤكده تابع، فلا مزية، أو أن ما لتأكيد الفعل [ ص: 239 ] في أوله، كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره، وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع، فإنه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى، وإن شاء ترك، وقيل بالقطع، واستعمال (إن) في مقامه لا يخلو عن نكتة، كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم ، وقيل : إن زيادة (ما) والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا، نعم، لا ينظر فيه إلى الزمان، بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التكلف، مما ذكر، وإن جل قائله، فتدبر، (ومني) متعلق بما قبله، وفيه شبه الالتفات كما في البحر، وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق بمن هدي التوحيد الصرف، وعدم الالتفات إلى الكثرة، ونكر الهدى لأن المقصود هو المطلق، ولم يسبق فيه عهد فيعرف، وفي المراد به هنا أقوال، فقيل: الكتب المنزلة، وقيل : الرسل، وقيل : محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام، والفاء في (فمن) للربط (وما) بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حد: إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك، وقال السجاوندي : جوابه محذوف، أي فاتبعوه، واختار أبو حيان كون (من) هذه موصولة لما في المقابل من الموصول، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط، ووضع المظهر موضع المضمر في (هداي) إشارة للعلية، لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وقيل : لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال، والعقل، ولم يقل الهدى، لئلا تتبادر العينية أيضا، لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام، والخوف الفزع في المستقبل، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن، وهو ما غلظ من الأرض، فكأنه ما غلظ من الهم، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور، ويؤول حينئذ نحو إني ليحزنني أن تذهبوا به بعلم ذلك الواقع، وقيل : إنه والخوف كلاهما في المستقبل، لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوت محبوب، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب، وهي أبلغ من الصريح وآكد، لأنها كدعوى الشيء ببينة والمعنى: لا خوف عليهم فضلا عن أن يحل بهم مكروه، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه، والحزن في الآخرة، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن، لا خوف فيها، ولا حزن، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين، وقال بعض الكبراء : خوف المكروه منفي عنهم مطلقا، وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال، والمخلصون على خطر عظيم، وقيل : المعنى لا خوف عليهم من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في العقبى، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات، ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي، وقدم الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن، وأن غيرهم يحزن، والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا، لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم، أو عندهم، إلى لا خوف عليهم، للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم، وفي البحر أنه سبحانه كنى بعليهم عن الاستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية، ألا ترى انصراف النفي على كونية الخوف عليهم، ولا يلزم من نفي كونية استيلاء الخوف انتفاؤه في كل حال، فلا دليل في الآية [ ص: 240 ] على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين، وأنت تعلم أن فيما أشرنا إليه كناية غنية عن مثله، وكذا عما قيل: إن نفي الاستيلاء للتعريض بالكفار، والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم، هذا وقرأ الأعرج (هداي) بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف، وقرأ الجحدري وغيره (هدي) بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل، وقرأ الزهري وغيره (فلا خوف) بالفتح، وابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين، وكأنه حذف لنية الإضافة، أو لكثرة الاستعمال أو لملاحظة اللام في الاسم على ما في البحر، ليحصل التعادل في كون لا، دخلت على المعرفة في كلا الجملتين، وهو على قراءة الجمهور مبتدأ، و(عليهم) خبره، أو أن لا عاملة عمل ليس كما قال ابن عطية ، والأول أولى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية