الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ما جعل الله من بحيرة هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الاسمية أو لحذف الموصوف، قال الزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا عن نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك، وقيل : البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها، وعن محمد بن إسحاق ومجاهد أنها بنت السائبة وستأتي إن شاء الله تعالى قريبا وكانت تهمل أيضا

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هي التي ولدت خمسا أو سبعا وقيل : عشرة أبطن وتترك هملا وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب، وقيل : هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنها وتركوها هملا، وجعلها في القاموس على هذا القول من الشاء خاصة، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضا

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا : اللهم إن عاش فعيي وإن مات فذكي فإذا مات أكلوه، وقيل : هي التي تترك في المرعى بلا راع ولا سائبة هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى مفعول كعيشة راضية. واختلف فيها فقيل: هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق، وقيل : هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقيل : هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب، وقيل : كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال : هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلإ ولا تركب، وقيل : هي ما ترك ليحج عليه، وقيل : هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث ولا وصيلة هي فعيلة بمعنى فاعلة؛ وقيل : مفعولة [ ص: 43 ] والأول أظهر كما ينبئ عن ذلك بيان المراد بها. واختلف فيه فقال الفراء : هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا ولدت في آخرها عناقا وجديا قيل : وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجري مجرى السائبة، وقال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل : هي الشاة تلد ذكرا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكرا قالوا : هذا قربان لآلهتنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها. وقال ابن قتيبة : إن كان السابع ذكرا ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا : خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقال محمد بن إسحاق : وهي الشاة تنتج عشرة إناث متواليات في خمسة أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث، فإذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، وقيل : هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جديا ذبحوه، وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها، وقال بعضهم : الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر، وقيل : هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينهما

                                                                                                                                                                                                                                      ولا حام هو الفاعل من الحمى بمعنى المنع. واختلف فيه أيضا فقال الفراء : هو الفحل إذ لقح ولد ولده فيقولون : قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى. وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل : هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها. والمراد في هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية. ومعنى ما جعل ما شرع ولذلك عدى إلى مفعول واحد وهو بحيرة وما عطف عليها و (من) سيف خطيب أتي بها لتأكيد النفي. وأنكر بعضهم مجيء (جعل) بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون : الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وإمامهم عمرو بن لحي فإنه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة. أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : "يا أكثم عرضت علي النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك، فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إنك مؤمن وهو كافر [ ص: 44 ] أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، وجاء في خبر آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ووصل الوصيلة

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف أول من سيب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام: عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه، وإني لأعرف أول من بحر البحائر قال: من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام : رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال : هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطآنه بأخفافهما "، واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع، واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده : أنت سائبة، وقال : يعتق بذلك

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه، وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك، ولعل الجاعل لا يكتفي بهذا القدر ويدعي الإثم فيه والناس عن ذلك غافلون وأكثرهم لا يعقلون

                                                                                                                                                                                                                                      301

                                                                                                                                                                                                                                      - أن ذلك افتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع، وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة والشعبي، وظاهر سياق النظم الكريم أنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بيان لقصور عقولهم عن الاهتداء بأنفسهم

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية