الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أفغير الله أبتغي حكما كلام مستأنف على إرادة القول والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل يا محمد : أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا عن المبطل وقيل : إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 8 ] اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت وإسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه :أفغير دين الله يبغون مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم اجعل بيننا وبينك حكما و ( غير ) مفعول أبتغي و ( حكما ) حال منه وقيل : تمييز لما في ( غير ) من الإبهام كقولهم : إن لنا إبلا غيرها وقيل : مفعول له وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الإنكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكما لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم وقيل : تقديمه للتخصيص وحمل على أن المراد تخصيص الإنكار لا إنكار التخصيص وقيل في تقديمه إيماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكما .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون ( غير ) حالا من ( حكما ) وحكما مفعول أبتغي والتقديم لكونه مصب الإنكار والحكم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي أنزل إليكم الكتاب جملة حالية مؤكدة للإنكار ونسبة الإنزال إليهم خاصة مع أن مقتضى المهام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإيهام قوة نسبته إليهم وقيل : لأن ذلك أوفق بصدرية الآية بناء على أن المراد بها الإنكار عليهم وإن عبر بما عبد إظهارا للنصفة ونظير ذلك قوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تدرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      مفصلا أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم ثم قال : وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا . . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن ملاحظة الإعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه : وأقسموا بالله الآية وبيان ذلك على ما ذكره الإمام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه ثم نبه على حصول الدليل من هذه الآية بوجهين الأول أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلا على أنه تعالى قد حكم بنبوته فمعنى الآية قل يا محمد : إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكما فإن كل أحد يقول : إن ذلك غير جائز ثم قل : إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز الثاني اشتماله التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد . . انتهى . ووجه بعضهم [ ص: 9 ] مدخلية الإعجاز بأنه لا يتم الإلزام إلا بالعلم يكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغنى عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة والسلام أنه من عند الله تعالى لكن قال : إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال والجملة الاسمية الحالية تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه وذكر أن هذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكما في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك وهو إنما يحكم له صلى الله عليه وسلم بصدق مدعاه بالإعجاز فإنهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة والسلام وأقسموا إن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى : أفغير الله .. إلخ . أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحمكم وألزمكم الحجة فكفى به سبحانه حاكما بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم ويؤول هذا إلى أنه صلى الله عليه وسلم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم إليه علم أهل الكتاب وعلى هذا فكونه معجزا مأخوذ من كونه مغنيا عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه وهذا له نوع قرب مما ذكره الإمام وما أشار إليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى : وأقسموا بالله .. إلخ . لا يخلو عن حسن إلا أن دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي ولم يظهر مما ذكر ما يزيل ذلك الخفاء وكون سوق الآية دليلا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر . ومن الناس من قال : يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي أنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى والحق ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عز وجل وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم كما يلوح من كلام الإمام والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقا والعلماء داخلون دخولا أوليا والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم وقيل المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين ولا يخفى أنه أبعد من الثريا والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية و ( من ) لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بـ منزل والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في منزل أي متلبسا بالحق وقرأ غالب السبعة ( منزل ) بالتخفيف من الإنزال والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه [ ص: 10 ] أكثري والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق وليس إشارة إلى المعنيين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تكونن من الممترين (114) أي المترددين في أنهم يعلمون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهي على الأخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلى الله عليه وسلم عن الامتراء في ذلك بل تبهيجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه : ولا تكونن من المشركين ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه : ولو ترى إذ المجرمون والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية