الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم وهو جمع أيم ، وفي الأيم قولان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أنها المتوفى عنها زوجها ، قاله محمد بن الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنها التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا وهو قول الجمهور . يقال رجل أيم إذا لم تكن له زوجة وامرأة أيم إذا لم يكن لها زوج . ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم



                                                                                                                                                                                                                                        وروى القاسم قال : أمر بقتل الأيم يعني الحية .

                                                                                                                                                                                                                                        وفي هذا الخطاب قولان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا آيامهم من أكفائهن إذا دعون إليه [ ص: 98 ] لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة .

                                                                                                                                                                                                                                        واختلف في وجوبه فذهب أهل الظاهر إليه تمسكا بظاهر الأمر ، وذهب جمهور الفقهاء إلى استحبابه للمحتاج من غير إيجاب وكراهته لغير المحتاج . ثم قال : والصالحين من عبادكم وإمائكم فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أن معنى الكلام وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من رجالكم وأنكحوا إماءكم .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمرنا بإنكاح الأيامى لاستحقاق السيد لولاية عبده وأمته، فإن دعت الأمة سيدها أن يتزوجها لم يلزمه لأنها فراش له ، وإن أراد تزويجها كان له خيرا وإن لم يختره ليكتسب رق ولدها ويسقط عنه نفقتها . وإن أراد السيد تزويج عبد أو طلب العبد ذلك من سيده فهل للداعي إليه أن يجبر الممتنع فيهما عليه أم لا؟ على قولين : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : إن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين ، وإما باجتماع الرزقين ، وروى عبد العزيز بن أبي رواد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اطلبوا الغنى في هذه الآية إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله .

                                                                                                                                                                                                                                        والله واسع عليم فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : واسع العطاء عليم بالمصلحة .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 99 ] الثاني : واسع الرزق عليهم بالخلق .

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى : وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا أي وليعف ، والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة ، قال رؤبة : يعف عن أسرارها بعد الفسق .

                                                                                                                                                                                                                                        يعني عن الزنى بها .

                                                                                                                                                                                                                                        الذين لا يجدون نكاحا يعني لا يقدرون عليه مع الحاجة إليه لإعسار إما بصداق أو نفقة.

                                                                                                                                                                                                                                        حتى يغنيهم الله من فضله يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : يغني بمال حلال يتزوجون به .

                                                                                                                                                                                                                                        والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا أما الكتاب المبتغى هنا فهو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق ، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز ، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها . وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيرا مذهبان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : وهو قول عطاء ، وداود ، يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيرا بين المقام والفسخ .

                                                                                                                                                                                                                                        إن علمتم فيهم خيرا خمسة تأويلات :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : أن الخير : القدرة على الاحتراف والكسب ، قاله ابن عمر وابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن الخير : المال ، قاله عطاء ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنه الدين والأمانة ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 100 ] الرابع : أنه الوفاء والصدق ، قاله قتادة وطاوس .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس : أنه الكسب والأمانة ، قاله الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                        وآتوهم من مال الله الذي آتاكم فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : يعني من مال الزكاة من سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد . ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنيا ، قاله الحسن ، وإبراهيم وابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : من مال المكاتبة معونة من السيد لمكاتبه كما أعانه غيره من الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                                        واختلف من ذهب إلى هذا التأويل في وجوبه فذهب أبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب ، وذهب الشافعي إلى وجوبه وبه قال عمر وعلي وابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        واختلف من قال بوجوبه في هذا التأويل في تقديره؛ فحكي عن علي أنه قدره بالربع من مال الكتابة ، وذهب الشافعي إلى أنه غير مقدر ، وبه قال ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        وإن امتنع السيد منه طوعا قضى الحاكم به عليه جبرا واجتهد رأيه في قدره ، وحكم به في تركته إن مات ، وحاص به الغرماء إن أفلس . والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم في قول الشافعي وأصحابه ، وإذا عجز عن أداء نجم عند محله كان السيد بالخيار بين إنظاره وتعجيزه وإعادته رقا ، ولا يرد ما أخذه منه أو من زكاة أعين بها أو مال كسبه .

                                                                                                                                                                                                                                        قال الكلبي: وسبب نزول قوله تعالى : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا الآية; أن عبدا اسمه صبح لحويطب بن عبد العزى سأله أن يكاتبه فامتنع حويطب فأنزل الله ذلك فيه .

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا الفتيات [ ص: 101 ] الإماء ، البغاء الزنى ، والتحصن التعفف ، ولا يجوز أن يكرهها ولا يمكنها سواء أرادت تعففا أو لم ترد . وفي ذكر الإكراه هنا وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : لأن الإكراه لا يصح إلا فيمن أراد التعفف ، ومن لم يرد التعفف فهو مسارع إلى الزنى غير مكره عليه .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنه وارد على سبب فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطا فيه ، وهذا ما روى جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له أمة يقال لها مسيكة، وكان يكرهها على الزنى فزنت ببرد فأعطته إياه فقال : ارجعي فازني على آخر : فقالت : لا والله ما أنا براجعة، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن سيدي يكرهني على البغاء فأنزل الله هذه الآية ، وكان مستفيضا من أفعال الجاهلين طلبا للولد والكسب .

                                                                                                                                                                                                                                        لتبتغوا عرض الحياة الدنيا أي لتأخذوا أجورهن على الزنى .

                                                                                                                                                                                                                                        ومن يكرهن يعني من السادة .

                                                                                                                                                                                                                                        فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم يعني للأمة المكرهة دون السيد المكره .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية