الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم [ ص: 276 ] أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسنا. قال السدي : يعني برا. حملته أمه كرها ووضعته كرها أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة. وقرئ كرها بالضم والفتح. قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره. وحمله وفصاله ثلاثون شهرا الفصال مدة الرضاع ، فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا، وكان في هذا التقدير قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع ، فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهرا لقوله تعالى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [البقرة: 233] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر ، فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع ، قاله الشافعي وجمهور الفقهاء.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع ، فإن كانت حملته تسعة أشهر; أرضعته أحدا وعشرين شهرا ، وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهرا لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهرا، قاله ابن عباس . حتى إذا بلغ أشده وفي الأشد تسعة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أنه البلوغ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: خمس عشرة سنة، قاله محمد بن أويس.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: عشرون سنة، قاله سنان. [ ص: 277 ] الخامس: خمسة وعشرون سنة ، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                        السادس: ثلاثون سنة ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                        السابع: ثلاثة وثلاثون سنة ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثامن: أربعة وثلاثون سنة ، قاله سفيان الثوري.

                                                                                                                                                                                                                                        التاسع: أربعون سنة ، وهو قول عائشة ، والحسن . وبلغ أربعين سنة فيه ثلاثة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: لأنها زمان الأشد ، وهو قول من ذكرنا.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لأنها زمان الاستواء ، قال زيد بن أسلم: لم يبعث الله نبيا حتى يبلغ الأربعين. وقال ابن زيد: وقوله تعالى لموسى واستوى قال بلغ أربعين سنة. وقال الشعبي: يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة ، وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة ، وينتهي عقله لثمان وعشرين ، فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: لأنها أول عمر بعد تمام عمر ، قال ابن قيس. رب أوزعني قال سفيان معناه ألهمني. قال ابن قتيبة: والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء ، ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به. أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي يحتمل وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنعمت علي بالبر والطاعة ، وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنعمت علي بالعافية والصحة ، وعلى والدي بالغنى والثروة ، وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة. وحكى أبو زهير عن الأعمش قال: سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال: يأتيه رزقه وهو في بطن أمه ، ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه ، واشترك أبوه في الثالثة ، وتفرد هو [ ص: 278 ] بالرابعة، فذهب عنه الهم لما كان موكلا إلى غيره ، واهتم لما صار موكلا إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون أنقى لهمته وأقل لحيرته وأدر لرزقه ، وليعلم أن لأمه عليه حقا يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته. وأن أعمل صالحا ترضاه يحتمل وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: في بر الوالدين.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: في ديني. وأصلح لي في ذريتي يحتمل وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه ، لأن طاعتهم لله من بره ، ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده. وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: قاله سهل: اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: قاله أبو عثمان: اجعلهم أبرارا ، أي مطيعين لك.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: قاله محمد الباقر رضي الله عنه: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا. إني تبت إليك قال ابن عباس : رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. وفي هذه الآية قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قاله مقاتل والكلبي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: مرسلة نزلت على العموم ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا فيه ثلاثة أوجه: [ ص: 279 ] أحدها: أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم ، قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: هو إعطاؤهم بالحسنة عشرا رواه أبو هلال.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب ، حكاه ابن عيسى . ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة فيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون وعد الصدق الجنة ، الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية