الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى

                                                                                                                                                                                                                                        علمه شديد القوى يعني: جبريل في قول الجميع. ذو مرة فاستوى فيه خمسة أوجه: [ ص: 392 ] أحدها: ذو منظر حسن ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ذو غناء، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: ذو قوة، قاله مجاهد وقتادة ، ومن قول خفاف بن ندبة

                                                                                                                                                                                                                                        إني امرؤ ذو مرة فاستبقني فيما ينوب من الخطوب صليب

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: ذو صحة في الجسم وسلامة من الآفات، ومن قول امرئ القيس


                                                                                                                                                                                                                                        كنت فيهم أبدا ذا حيلة     محكم المرة مأمون العقد

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس: ذو عقل ، قاله ابن الأنباري، قال الشاعر

                                                                                                                                                                                                                                        قد كنت عند لقاكم ذا مرة     عندي لكل مخاصم ميزانه

                                                                                                                                                                                                                                        وفي قوله فاستوى خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: فاستوى جبريل في مكانه، قاله سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: قام جبريل على صورته التي خلق عليها لأنه كان يظهر له قبل ذلك في صورة لا رجل. حكى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته إلا مرتين: أما واحدة، فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية، فإنه كان معه حين صعد ، وذلك قوله وهو بالأفق الأعلى الثالث: فاستوى القرآن في صدره، وفيه على هذا وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: فاعتدل في قوته.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: في رسالته.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: يعني: فارتفع ، وفيه على هذا وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنه جبريل ارتفع إلى مكانه.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ارتفع بالمعراج. وهو بالأفق الأعلى فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنه جبريل حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى ، قاله عكرمة . وفي الأفق الأعلى ثلاثة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: هو مطلع الشمس ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: هو الأفق الذي يأتي منه النهار ، قاله قتادة ، يعني طلوع الفجر.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها ، قاله ابن زيد ، ومنه قول الشاعر

                                                                                                                                                                                                                                        أخذنا بآفاق السماء عليكم     لنا قمراها والنجوم والطوالع

                                                                                                                                                                                                                                        ثم دنا فتدلى فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنه جبريل، قاله قتادة . [ ص: 393 ] الثاني: أنه الرب، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله فتدلى فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: تعلق فيما بين والسفل لأنه رآه منتصبا مرتفعا ثم رآه متدليا ، قاله ابن بحر .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: معناه قرب ، ومنه قوله تعالى وتدلوا بها إلى الحكام أي تقربوها إليهم ، وقال الشاعر

                                                                                                                                                                                                                                        أتيتك لا أدلي بقربى قريبة     إليك ولكني بجودك واثق

                                                                                                                                                                                                                                        وقيل فيه تقديم وتأخير ، وتقديره: ثم تدلى فدنا ، قاله ابن الأنباري. فكان قاب قوسين أو أدنى فيه أربعة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: قيد قوسين ، قاله قتادة والحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه بحيث الوتر من القوس ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: من مقبضها إلى طرفها ، قاله عبد الحارث.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: قدر ذراعين ، قاله السدي ، فيكون القاب عبارة عن القدر ، والقوس عبارة عن الذراع. ثم اختلفوا في المعنى بهذا الداني على ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أنه جبريل من ربه ، قاله مجاهد وهو قول ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم من ربه ، قاله محمد بن كعب.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم. فأوحى إلى عبده ما أوحى في عبده الموحى إليه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أنه جبريل عليه السلام أوحى إليه ما يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالته عائشة، والحسن ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه على لسان جبريل، قاله ابن عباس والسدي . ما كذب الفؤاد ما رأى في الفؤاد قولان: [ ص: 394 ] أحدهما: أنه أراد صاحب الفؤاد فعبر عنه بالفؤاد لأنه قطب الجسد وقوام الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه أراد نفس الفؤاد لأنه محل الاعتقاد وفيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: معناه ما أوهمه فؤاده ما هو بخلافه كتوهم السراب ماء ، فيصير فؤاده بتوهم المحال كالكاذب له، وهو تأويل من قرأ ما كذب الفؤاد بالتخفيف.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: معناه ما أنكر قلبه ما رأته عينه، وهو تأويل من قرأ "كذب" بالتشديد. وفي الذي رأى خمسة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: رأى ربه بعينه ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: في المنام ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه بقلبه روى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله [هل رأيت ربك] ؟ قال: (رأيته بفؤادي مرتين ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى الرابع: أنه رأى جلاله ، قاله الحسن ، وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس: أنه رأى جبريل على صورته مرتين، قاله ابن مسعود . أفتمارونه على ما يرى فيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أفتجادلونه على ما يرى، قاله إبراهيم.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أفتجادلونه على ما يرى، وهو مأثور. [ ص: 395 ] الثالث: أفتشككونه على ما يرى ، قاله مقاتل. ولقد رآه نزلة أخرى يعني أنه رأى ما رآه ثانية بعد أولى، قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى عليهما السلام، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين. عند سدرة المنتهى روي فيها خبران.

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: ما روى طلحة بن مصرف عن مرة عن ابن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها الخبر.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ما رواه معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة، ثمرها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان، قلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: أما النهران الباطنان ففي الجنة، وأما النهران الظاهران فالنيل والفرات . وفي سبب تسميتها سدرة المنتهى خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: لأنه ينتهي علم الأنبياء إليها ، ويعزب علمهم عما وراءها، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: لانتهاء الملائكة والنبيين إليها ووقوفهم عندها، قاله كعب.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، قاله الربيع بن أنس. [ ص: 396 ] الخامس: لأنه ينتهي إليها كل ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها ، قاله ابن مسعود . عندها جنة المأوى فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: جنة المبيت والإقامة ، قاله علي ، وأبو هريرة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنها منزل الشهداء ، قاله ابن عباس ، وهي عن يمين العرش وفي ذكر جنة المأوى وجهان على ما قدمناه في سدرة المنتهى:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما: أن المقصود بذكرها تعريف موضعها بأنه عند سدرة المنتهى ، قاله الجمهور. إذ يغشى السدرة ما يغشى فيه ثلاثة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أن الذي يغشاها فراش من ذهب ، قاله ابن مسعود ورواه مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه نور رب العزة ، قاله الضحاك . فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية، فظلها بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. ما زاغ البصر وما طغى في زيغ البصر ثلاثة أوجه

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: انحرافه.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ذهابه، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: نقصانه، قاله ابن بحر . وفي طغيانه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: ارتفاعه عن الحق.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: تجاوزه للحق، قاله ابن عباس . [ ص: 397 ] الثالث: زيادته ، ويكون معنى الكلام أنه رأى ذلك على حقه وصدقه من غير نقصان عجز عن إدراكه ، ولا زيادة توهمها في تخليه ، قاله ابن بحر . لقد رأى من آيات ربه الكبرى فيه ثلاثة أقاويل:

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: ما غشي السدرة من فراش الذهب ، قاله ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه قد رأى جبريل وقد سد الأفق بأجنحته ، قاله ابن مسعود أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: ما رآه حين نامت عيناه ونظر بفؤاده ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية