الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الآية. مخرجة مخرج النفي أن يصح إله سوى الله ، وحقيقته إثبات إله واحد وهو الله ، وتقديره: الله الإله دون غيره. الحي فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصارفها ، وتقدير الأشياء مقاديرها ، فهو حي بالتقدير لا بحياة. والثاني: أنه حي بحياة هي له صفة. والثالث: أنه اسم من أسماء الله تسمى به ، فقلناه تسليما لأمره. والرابع: أن المراد بالحي الباقي ، قاله السدي ، ومنه قول لبيد:


                                                                                                                                                                                                                                        إذا ما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر



                                                                                                                                                                                                                                        ( القيوم ) قرأ عمر بن الخطاب: (القيام). وفيه ستة تأويلات: أحدها: القائم بتدبير خلقه ، قاله قتادة. والثاني: يعني القائم على كل نفس بما كسبت ، حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم به ، لا يخفى عليه شيء منه ، قاله الحسن . والثالث: معنى القائم الوجود ، وهو قول سعيد بن جبير. والرابع: أنه الذي لا يزول ولا يحول ، قاله ابن عباس . والخامس: أنه العالم بالأمور ، من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب ، أي هو عالم به. [ ص: 324 ]

                                                                                                                                                                                                                                        والسادس: أنه اسم من أسماء الله ، مأخوذ من الاستقامة ، قال أمية بن أبي الصلت:


                                                                                                                                                                                                                                        لم تخلق السماء والنجوم     والشمس معها قمر يقوم
                                                                                                                                                                                                                                        قدرها المهيمن القيوم     والحشر والجنة والحميم




                                                                                                                                                                                                                                        إلا لأمر شأنه عظيم



                                                                                                                                                                                                                                        لا تأخذه سنة ولا نوم السنة: النعاس في قول الجميع ، والنعاس ما كان في الرأس ، فإذا صار في القلب صار نوما ، وفرق المفضل بينهما ، فقال: السنة في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب. وما عليه الجمهور من التسوية بين السنة والنعاس أشبه ، قال عدي بن الرقاع:


                                                                                                                                                                                                                                        وسنان أقصده النعاس فرنقت     في عينه سنة وليس بنائم



                                                                                                                                                                                                                                        يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم فيه وجهان: أحدهما: ما بين أيديهم: هو ما قبل خلقهم ، وما خلفهم: هو ما بعد موتهم. والثاني: ما بين أيديهم: ما أظهروه ، وما خلفهم: ما كتموه. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء أي من معلومه إلا أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه. وسع كرسيه السماوات والأرض في الكرسي قولان: أحدهما: أنه من صفات الله تعالى. والثاني: أنه من أوصاف ملكوته. فإذا قيل: إنه من صفات ففيه أربعة أقاويل: [ ص: 325 ]

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها: أنه علم الله ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه قدرة الله. والثالث: ملك الله. والرابع: تدبير الله. وإذا قيل: إنه من أوصاف ملكوته ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العرش ، قاله الحسن . والثاني: أنه سرير دون العرش. والثالث: هو كرسي تحت العرش ، والعرش فوق الماء. وأصل الكرسي العلم ، ومنه قيل للصحيفة فيها علم مكتوب: كراسة ، قال أبو ذؤيب:


                                                                                                                                                                                                                                        ما لي بأمرك كرسي أكاتمه     ولا بكرسي عليم الغيب مخلوق



                                                                                                                                                                                                                                        وقيل للعلماء: الكراسي ، لأنهم المعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض ، لأنهم الذين بهم تصلح الأرض ، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                        يحف بهم بيض الوجوه وعلية     كراسي بالأحداث حين تنوب



                                                                                                                                                                                                                                        أي علماء بحوادث الأمور ، فدلت هذه الشواهد على أن أصح [ ص: 326 ]

                                                                                                                                                                                                                                        تأويلاته ، ما قاله ابن عباس ، أنه علم الله تعالى. وقرأ يعقوب الحضرمي: (وسع كرسيه السماوات والأرض) بتسكين السين من وسع وضم العين، ورفع السماوات والأرض على الابتداء والخبر ، وفي تأويله وجهان: أحدهما: لا يثقله حفظهما في قول الجمهور. والثاني: لا يتعاظمه حفظهما ، حكاه أبان بن تغلب. وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                        ألا بك سلمى اليوم بت جديدها     وضنت وما كان النوال يئودها



                                                                                                                                                                                                                                        واختلفوا في الكناية بالهاء إلى ماذا تعود؟ على قولين: أحدهما: إلى اسم الله ، وتقديره: ولا يثقل الله حفظ السماوات والأرض. والثاني: تعود إلى الكرسي ، وتقديره: ولا يثقل الكرسي حفظهما. وهو العلي العظيم في العلي تأويلان: أحدهما: العلي بالاقتدار ونفوذ السلطان. والثاني: العلي عن الأشباه والأمثال. وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان محتملان: أحدهما: أن العالي هو الموجود في محل العلو ، والعلي هو مستحق العلو. والثاني: أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك في علوه ، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك في علوه ، فعلى هذا الوجه ، يجوز أن نصف الله بالعلي ، ولا يجوز أن نصفه بالعالي ، وعلى الوجه الأول يجوز أن نصفه بهما جميعا.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية