الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى: واذكر في الكتاب مريم يعني في القرآن إذ انتبذت من أهلها فيه وجهان: أحدهما: انفردت ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: اتخذت. مكانا شرقيا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ناحية المشرق، قاله الأخفش ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: مشرقة داره التي تظلها الشمس، قاله عطية.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: مكانا شاسعا بعيدا، قاله قتادة . قوله تعالى: فاتخذت من دونهم حجابا فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حجابا من الجدران، قاله السدي.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 362 ] الثاني: حجابا من الشمس جعله الله ساترا ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: حجابا من الناس ، وهو محتمل ، وفيه وجهان: أحدهما: أنها اتخذت مكانا تنفرد فيه للعبادة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنها اتخذت مكانا تعتزل فيه أيام حيضها. فأرسلنا إليها روحنا الآية: فيه قولان: أحدهما: يعني الروح التي خلق منها المسيح حتى تمثل لها بشرا سويا.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه جبريل ، قاله الحسن وقتادة ، والسدي ، وابن جريج ، وابن منبه. وفي تسميته له روحا وجهان: أحدهما: لأنه روحاني لا يشوبه شيء غير الروح ، وأضافه إليه بهذه الصفة تشريفا له.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: لأنه تحيا به الأرواح. واختلفوا في سبب حملها على قولين: أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب درعها وكمها فحملت ، قاله ابن جريج ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:


                                                                                                                                                                                                                                        فأهوى لها بالنفخ في جيب درعها فألقت سوي الخلق ليس بتوأم



                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه ما كان إلا أن حملت فولدته ، قاله ابن عباس . واختلفوا في مدة حملها على أربعة أقاويل: أحدها: تسعة أشهر ، قاله الكلبي.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: تسعة أشهر. حكى لي ذلك أبو القاسم الصيمري.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: يوما واحدا.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: ثمانية أشهر ، وكان هذا آية عيسى فإنه لم يعش مولودا لثمانية أشهر سواه.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 363 ] قوله تعالى: قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا لأن مريم خافت جبريل على نفسها حين دنا فقالت إني أعوذ أي أمتنع بالرحمن منك فاستغاثت بالله في امتناعها منه. فإن قيل: فلم قالت إن كنت تقيا والتقي مأمون وإنما يستعاذ من غير التقي؟ ففيه وجهان: أحدهما: أن معنى كلامها إن كنت تقيا لله فستمتنع من استعاذتي وتنزجر عني من خوفه ، قاله أبو وائل.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه كان اسما لرجل فاجر من بني إسرائيل مشهور بالعهر يسمى تقيا فخافت أن يكون الذي جاءها هو ذلك الرجل المسمى تقيا الذي لا يأتي إلا للفاحشة فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية