الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد

هذا هو المثال الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعث الأجساد، وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين، فكذلك الأجساد، و "هامدة" معناها: ساكنة دارسة بالية، ومنه قيل: همد الثوب إذا بلي، قال الأعشى :


قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا

و "اهتزاز الأرض" هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء، و "ربت" معناه: نشزت وارتفعت، ومنه الربوة، وهو المكان المرتفع، وقرأ جعفر بن القعقاع : "وربأت" بالهمز، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأها عبد الله بن جعفر ، [ ص: 218 ] وخالد بن إلياس ، وهي غير وجيهة، ووجهها أن تكون من: "ربأت القوم" إذا علوت شرفا من الأرض طليعة، فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو. و"الزوج": النوع، و "البهيج" فعيل من البهجة وهي الحسن، قاله قتادة وغيره.

قوله: ذلك بأن الله هو الحق إشارة إلى ما تقدم ذكره، فـ "ذلك" ابتداء، وخبره "بأن"، أي: هو بأن الله حق محيي قادر، وقوله: وأن الساعة آتية ليس بسبب لما ذكر، لكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض، أو على تقدير: والأمر أن الساعة.

وقوله تعالى: ومن الناس من يعبد الآية. الإشارة بقوله سبحانه: " ومن الناس " إلى القوم المتقدم ذكرهم، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه قال: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق ، وكرر هذه على جهة التوبيخ، فكأنه يقول: وهذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان، ومن الناس مع ذلك من يجادل، فكأن الواو واو الحال، والآية المتقدمة الواو فيها واو عطفت جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار، وهي ها هنا مكررة للتوبيخ، و "ثاني" حال من ضمير في "يجادل"، ولا يجوز أن تكون من "من" لأنها ابتداء، والابتداء عمله الرفع لا النصب، وإضافة "ثاني" غير معتد بها; لأنها في معنى الانفصال إذ تقديرها: ثانيا عطفه. وقوله سبحانه: ثاني عطفه عبارة عن المتكبر المعرض، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عما يتكبر عنه، فهو يرد وجهه يصعر خده ويلوي عنقه، ويثني عطفه، وهذه هي عبارات المفسرين. و "العطف": الجانب. وقرأ الحسن : "عطفه" بفتح العين، والعطاف: السيف; لأن صاحبه يتعطفه، أي يصله [ ص: 219 ] بجنبه. وقرأ الجمهور : "ليضل" بضم الياء، وقرأ مجاهد وأهل مكة : "ليضل" بفتح الياء، وكذلك قرأ أبو عمرو . و "الخزي": الذي توعد به النضر بن الحارث في أسره يوم بدر ، وقتله بالصفراء و"الحريق": طبقة من طبقات جهنم.

وقوله تعالى: ذلك بما قدمت يداك بمعنى: يقال له، ونسب التقديم إلى اليدين إذ هما آلة الاكتساب، واختلف في الوقف على "يداك" فقيل: لا يجوز لأن التقدير: وبأن الله، أي أن هذا هو العدل فيك بجرائمك، وقيل: يجوز بمعنى: والأمر أن الله تعالى ليس بظلام. و "العبيد" هنا ذكروا في معنى مكسنتهم وقلة قدرتهم، فلذلك جاءت هذه الصيغة.

التالي السابق


الخدمات العلمية