الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز

روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين، لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى: "كفور"، ووعد فيها بالمدافعة، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقرأ نافع ، والحسن ، وأبو جعفر : "يدافع" "ولولا دفاع"، وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : "يدفع"، "ولولا دفع"، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : "يدافع"، "ولولا دفع"، قال أبو علي : أجريت "دافع" في هذه القراءة مجرى "دفع"، كعاقبت اللص وطارقت النعل، فجاء المصدر دفعا، قال أبو الحسن والأخفش : أكثر الكلام أن الله يدفع، ويقولون: دافع الله عنك إلا أن دفع أكثر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

يحسن في الآية "يدافع" لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم، وحكى الزهراوي أن "دفاعا" مصدر "دفع"، كحسبت حسابا. ثم أذن الله تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله: "أذن"، وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات، فبعضها أقوى من بعض، فقرأ نافع ، وحفص عن عاصم : "أذن" بضم الألف "يقاتلون" بفتح التاء، أي: في أن يقاتلهم، فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازاة، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، والحسن ، والزهري : "أذن" بضم الألف "يقاتلون" بكسر التاء، فالإذن في هذه القراءة في ابتداء القتال، وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : "أذن" بفتح الألف "يقاتلون" بكسر التاء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف والتاء جميعا، وهي في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه: [ ص: 253 ] "أذن للذين يقاتلون في سبيل الله" بكسر التاء، وفي مصحف أبي "أذن" بضم الهمزة "للذين قاتلوا"، وذلك قرأ طلحة والأعمش إلا أنهما فتحا همزة "أذن".

وقوله تعالى: بأنهم ظلموا معناه: كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال ابن جريج : وهذه الآية أول ما نقض الموادعة. قال ابن عباس ، وابن جبير : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لما سمعت علمت أنه سيكون قتال، وقال مجاهد : الآية في مؤمنين بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول; لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا. ثم وعد تعالى بالنصر في قوله سبحانه: وإن الله على نصرهم لقدير .

وقوله تعالى: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوه بإذايتهم، طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة ، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه. وقوله تعالى: إلا أن يقولوا ربنا الله استثناء منقطع ليس من الأول، هذا قول سيبويه ، ولا يجوز عنده فيه البدل، وجوزه أبو إسحق ، والأول أصوب.

[ ص: 254 ] وقوله تعالى: ولولا دفع الله الناس الآية تقوية للأمر بالقتال، وذكر الحجة بالمصلحة فيه، وذكر أنه متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال فليقاتل المؤمنون، ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. هذا أصوب تأويلات الآية. ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد، وقال مجاهد : ولولا دفع الله ظلم قوم لشهادة العدول ونحو هذا، وقالت فرقة: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية. وقالت فرقة: ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار ونحوه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا وما شاكله مفسد لمعنى الآية، وذلك أن الآية تقتضي ولا بد مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه، فتأمله.

وقرأ نافع ، وابن كثير : "لهدمت" مخففة الدال، وقرأ الباقون: "لهدمت" مشددة الدال.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذه تحسن من حيث هي صوامع كثيرة ففي هدمها تكرار وكثرة، كما قال تعالى: في بروج مشيدة فثقل الياء، وقال: " قصر مشيد " فخفف لكونه فردا، ومنه وغلقت الأبواب ، و مفتحة لهم الأبواب .

[ ص: 255 ] و "الصومعة": موضع العبادة، وزنها فوعلة، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى، والصومع من الرجال: الحديد القلب، وكانت قبل الإسلام مختصة بالرهبان النصارى وبعباد الصابئين -قاله قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين.

و "البيع": كنائس النصارى ، واحدتها بيعة، قال الطبري : وقيل: هي كنائس اليهود .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك.

و "الصلوات" مشتركة لكل ملة، واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطل، أو أراد: موضع صلوات، وذهبت فرقة إلى أن "الصلوات" اسم لكنائس اليهود ، وأن اللفظة عبرانية عربت، وليست بجمع صلاة. وقال أبو العالية : الصلوات مساجد الصابئين. واختلفت القراءة فيها فقرأ جمهور الناس: "صلوات" بفتح الصاد واللام وبالتاء بنقطتين، وذلك إما بتقدير: مواضع صلوات، وإما على أن تعطيل الصلاة هدمها، وقرأ جعفر بن محمد : "صلوات" بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة: "صلوات" بكسر الصاد وسكون اللام، حكاها ابن جني ، وقرأ الجحدري -فيما روي عنه-: "وصلوات" بنقطتين من فوق وبضم الصاد واللام، على وزن فعول، قال: وهي مساجد النصارى ، وقرأ الجحدري ، والحجاج بن يوسف : "وصلوب" بضم الصاد واللام وبالباء، على أنه جمع صليب، وقرأ الضحاك والكلبي : "وصلوث" بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثا، قالوا: وهي مساجد اليهود ، وقرأت فرقة: "صلوت" بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة: "وصلوات" بضم الصاد واللام، حكاها ابن جني ، وقرأت فرقة: "صلوتي" بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد التاء، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوت تدفن فيها النصارى يقال لها: صلوات، وقرأ عكرمة ، ومجاهد : "صلوتي" بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد التاء.

[ ص: 256 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصدها تقسيم متعبدات الأمم، فالصوامع للرهبان.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وقيل: للصابئين، والبيع للنصارى، و الصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب ، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر، ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته، ولا يوجد ذكر الله تعالى إلا عند أهل الشرائع.

وقوله تعالى: يذكر فيها اسم الله كثيرا الضمير عائد على جميع ما تقدم. ثم وعد الله تبارك وتعالى بنصره ونصر دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه، ثم الآية تعم كل من نصر حقا إلى يوم القيامة.

التالي السابق


الخدمات العلمية