الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 281 ] قوله عز وجل:

ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين

هذا ابتداء كلام، والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على جملة وإن تباينت في المعاني، واختلف المفسرون في قوله: "الإنسان" فقال قتادة وغيره: أراد آدم -عليه السلام- لأنه استل من الطين.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ويجيء الضمير في قوله تعالى: "ثم جعلناه" عائدا على ابن آدم -وإن كان لم يذكره- لشهرة الأمر، وأن المعنى لا يصلح إلا له، نظير ذلك حتى توارت بالحجاب وغيره. -وقال ابن عباس رضي الله عنهما- المراد بقوله: "الإنسان" ابن آدم. و سلالة من طين صفوة الماء.

قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-:

وهذا على أنه اسم الجنس، ويترتب فيه أنه سلالة من حيث كان الكل عن آدم -عليه السلام- أو عن الأبوين المتقدمين بما يكون من الطين، وذلك السبع الذي جعل الله تعالى رزق ابن آدم فيها، وسيجيء قول ابن عباس -رضي الله عنهما- فيها إن شاء الله، وعلى هذا يجيء قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن السلالة هي صفوة الماء، يعني المني. وقال مجاهد : سلالة من طين : مني آدم .

[ ص: 282 ] قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-:

وهذا بين; إذ آدم من طين وذريته من سلالة، وما يكون عن الشيء فهو سلالته، وتختلف وجوه ذلك الكون، فمنه قولهم للخمر: سلالة; لأنها سلالة العنب، ومنه قول الشاعر:


إذا أنتجت منها المهارى تشابهت على العود إلا بالأنوف سلائله

ومن اللفظ قول هند بنت النعمان بن بشير :


. . . . . . . .     سليلة أفراس تحللها بغل

ومنه قول الآخر:


فجاءت به عضب الأديم غضنفرا     سلالة فرج كان غير حصين

وهذه الفرقة يترتب مع قولها عود الضمير في "جعلناه" و"أنشأناه".

[ ص: 283 ] و"النطفة" تقع في اللغة على قليل الماء وكثيره، وهي هنا لمني ابن آدم، و"القرار المكين" من المرأة هو موضع الولد، و"المكين": المتمكن، فكأن "القرار" هو المتمكن في الرحم. و"العلقة": الدم الغريض، و"المضغة": بضعة اللحم قدر ما يمضغ.

وقرأ الجمهور : "عظاما" في الموضعين، وقرأ ابن عامر ، وعاصم -في رواية أبي بكر -: "عظما" بالإفراد في الموضعين، وقرأ سلمة ، وقتادة ، والأعرج ، والأعمش بالإفراد أولا وبالجمع في الثاني، وقرأ مجاهد ، وأبو رجاء ، وإبراهيم بن أبي بكر بعكس ذلك، وفي قراءة ابن مسعود : "ثم جعلنا المضغة عظاما وعصبا فكسوناه لحما".

واختلف الناس في الخلق الآخر، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- والشعبي ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن زيد : هو نفخ الروح فيه، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضا: خروجه إلى الدنيا، وقال قتادة -عن فرقة-: نبات شعره، وقال مجاهد : كمال شبابه، وقال ابن عباس أيضا: تصرفه في أمور الدنيا.

قال القاضي أبو محمد -رحمه الله:

وهذا التخصيص كله لا وجه له، وإنما هو عام في هذا، وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها آخر، وأول رتبة من كونه آخر هي نفخ الروح فيه، والطرف الآخر من كونه آخر تحصيله المعقولات إلى أن يموت.

و"تبارك" هو مطاوع "بارك"، فكأنها بمنزلة "تعالى وتقدس"، من معنى البركة، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما سمع صدر الآية إلى قوله: "آخر" قال: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هكذا أنزلت" . [ ص: 284 ] ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل -رضي الله عنه- ويروى أن قائل ذلك هو عبد الله بن أبي سرح ، وبهذا السبب ارتد وقال: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد عليه الصلاة والسلام- وفيه نزلت: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء .

وقوله تعالى: أحسن الخالقين معناه: أحسن الصانعين، يقال لمن صنع شيئا: خلقه، ومنه قول الشاعر:


ولأنت تفري ما خلقت وبعـ     ـض القوم يخلق ثم لا يفري


وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، فقال ابن جريج : إنما قال: [ ص: 285 ] "الخالقين" لأنه -تبارك وتعالى- قد أذن لعيسى عليه السلام في أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم، ومن هذه الآية " قال ابن عباس لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- حين سأله مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم، فقال عمر -رضي الله عنه-: ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى خلق السماوات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع، وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين، فقال عمر : أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه" . وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة ، فأراد ابن عباس -رضي الله عنهما- بقوله: خلق ابن آدم من سبع . هذه الآية، وبقوله: جعل رزقه في سبع قوله تعالى: فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا الآية، السبع منها لابن آدم، والأب للأنعام، والقضب يأكله ابن آدم وتسمن به النساء، هذا قول، وقيل: القضب: البقول لأنها تقضب، فهي رزق ابن آدم، وقيل: القضب والأب للأنعام والستة الباقية لابن آدم، والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.

التالي السابق


الخدمات العلمية