الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير

قرأ الجمهور: "استخلف" على بناء الفعل للمفعول، وروي أن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا فيه من الخوف على [ ص: 405 ] أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم، فنزلت هذه الآية عامة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: "في الأرض" يريد: في البلاد التي تجاورهم والأصقاع التي قضى بامتدادهم إليها، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها كما جرى في الشام وفي العراق وخراسان والمغرب ، وقال الضحاك في كتاب النقاش : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخلافة بعدي ثلاثون سنة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور.

واللام في قوله تعالى: "ليستخلفنهم" لام القسم. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وابن عامر : "وليبدلنهم" بفتح الباء وشد الدال، وقرأ ابن كثير ، وعاصم -في رواية أبي بكر - والحسن ، وابن محيصن بسكون الباء وتخفيف الدال، وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغبرون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة ، وقوله: "يعبدونني" فعل مستأنف، أي هم [ ص: 406 ] يعبدونني، وقوله: "ومن كفر" يريد: كفر هذه النعم إذا وقعت، ويكون الفسق -على هذا- غير المخرج عن الملة، قال بعض الناس في كتاب الطبري : ظهر ذلك في قتلة عثمان رضي الله عنه، ويحتمل أن يريد الكفر والفسق المخرجين عن الملة، وهو ظاهر قول حذيفة بن اليمان ، فإنه قال: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاق وقد ذهب ولم يبق إلا كفر بعد إيمان.

ولما قدم تعالى عمل الصالحات بينها في هذه الآية، فنص على عظمها وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعم بطاعة الرسول لأنها عامة لجميع الطاعات. و "لعلكم" معناه: في حقكم ومعتقدكم.

ثم أنحى القول على الكفرة بأن نبه على أنهم ليسوا بمفلتين من عذاب الله تعالى.

وقرأ جمهور السبعة: "لا تحسبن" بالتاء على المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأها الحسن بن أبي الحسن بفتح السين، وقرأ حمزة ، وابن عامر : "لا يحسبن" بالياء، قال أبو علي : وذلك يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون التقدير: لا يحسبن محمد ، والآخر أن يسند الفعل إلى الذين كفروا والمفعول أنفسهم، وأعجز الرجل إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه، ثم أخبر بأن مأواهم النار، وأنها بئس الخاتمة والمصير.

التالي السابق


الخدمات العلمية