الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 90 ] قوله عز وجل:

ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا

أمر الله تعالى في هذه الآية بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب، فمن جهل ذلك فيه كان مولى وأخا في الدين، فقال الناس: زيد بن حارثة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، إلى غير ذلك، وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال: أنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم، قال الراوي عنه: ولو علم والله أن أباه حمار لانتمى إليه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة : نفيع بن الحارث .

و"أقسط" معناه: أعدل، وقال قتادة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة".

وقوله عز وجل: وليس عليكم جناح الآية رفع للحرج عمن وهم ونسي وأخطأ فجرى على العادة من نسبة زيد إلى محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما يشبهه، وأبقى الجناح في التعمد مع الشرط أو الجزاء المنصوص.

وقوله تعالى: وكان الله غفورا رحيما يريد: لما مضى من فعلهم في ذلك، ثم هما صفتان لله عز وجل تطردان في كل شيء، وقالت فرقة: خطؤهم فيما كان سلف من قولهم ذلك.

[ ص: 91 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا ضعيف لا يوصف ذلك بخطأ إلا بعد النهي، وإنما الخطأ هنا بمعنى النسيان، وما كان مقابل العمد. وحكى الطبري عن قتادة أنه قال: الخطأ الذي رفع الله فيه الجناح أن تعتقد في أحد أنه ابن فلان فتنسبه إليه، وهو في الحقيقة ليس بابنه، والعمد هو أن تنسبه إلى فلان وأنت تدري أنه ابن غيره، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "ما أخشى عليكم الخطأ، وإنما أخشى العمد".

وقوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين الآية. أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذكر الله تعالى أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه، حسب حديث عمر رضي الله عنه، ويلزمه أن يمتثل أوامره، أحبت نفسه ذلك أو كرهته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا فعلي، أنا وليه، اقرؤوا إن شئتم": النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . وقال بعض العلماء العارفين: هو أولى بهم من أنفسهم; لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة.

[ ص: 92 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها تقحم الفراش".

وشرف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين: في حرمة النكاح وفي المبرة، وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات، قال مسروق : قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: يا أمه، فقالت: لست لك بأم، وإنما أنا أم رجالكم، وفي مصحف أبي بن كعب : "وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم"، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: "من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم"، وسمع عمر رضي الله عنه هذه القراءة فأنكرها، فقيل له: إنها في مصحف أبي، فسأله فقررها أبي وأغلظ لعمر ، وقد قيل في قول لوط عليه السلام: "هؤلاء بناتي": إنما أراد المؤمنات، أي: تزوجوهن.

ثم حكم بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين، اختلفت الرواية في صفته، وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته، ورد الله المواريث على الأنساب الصحيحة.

وقوله: في كتاب الله يحتمل أن يريد القرآن، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ، وقوله: من المؤمنين متعلق بـ"أولى" الثانية، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا.

[ ص: 93 ] وقوله تعالى: إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يريد الإحسان في الحياة، والصلة والوصية عند الموت، قاله قتادة ، والحسن ، وعطاء ، وابن الحنفية ، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه، والقريب الكافر يوصى له بوصية. واختلف العلماء، هل يجعل هو وصيا؟ فجوز بعض، ومنع بعض، ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه. وذهب مجاهد ، وابن زيد ، والرماني، وغيره إلى أن المعنى: "إلى أوليائكم من المؤمنين"، ولفظ الآية يعضد هذا المذهب، وتعميم لفظ "الولي" أيضا حسن كما قدمنا; إذ ولاية النسب لا تدفع الكافر

وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام، والكتابي الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا.

و"مسطورا" من قولك: "سطرت الكتاب" إذا أثبته أسطارا، ومنه قول العجاج :

في الصحف الأولى التي كان سطر

قال قتادة : وفي بعض القراءة: "كان ذلك عند الله مكتوبا".

التالي السابق


الخدمات العلمية