الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير

هذه آية موعظة وتذكير، والإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها، لا يستغني عنه طرفة عين، وهو به مستغن عن كل واحد، والله تعالى غني عن الناس، وعن كل شيء من مخلوقاته، غني على الإطلاق، و"الحميد": المحمود بالإطلاق، وقوله: "بعزيز" أي: بممتنع.

و"تزر" معناه: تحمل الوزر الثقيل، وهذه الآية في الذنوب والآثام والجرائم، قاله قتادة ، وابن عباس ، ومجاهد ، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين: اكفروا بمحمد وعلي وزركم، فحكم الله تعالى بأنها لا يحملها أحد عن أحد، ومن تطرق من [ ص: 212 ] الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة - كفعل زياد ونحوه - فإن ذلك لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة، أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب، وهذا هو المعنى في قوله تعالى: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، لأنهم أغووهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده"، وأنثت "وازرة" لأنه ذهب بها مذهب النفس، وعلى ذلك أجريت "مثقلة". والحمل: ما كان على الظهر في الأجرام، ويستعار للمعاني كالذنوب ونحوها، فيجعل كل محمول متصلا بالظهر، كما يجعل كل اكتساب منسوبا إلى اليد. واسم "كان" مضمر، تقديره: ولو كان الداعي.

ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما ينذر أهل الخشية، وهم الذين يمنحون العلم، أي: إنما ينتفع بالإنذار هم، وإلا فلنذارة جميع العالم بعثه.

وقوله: "بالغيب" أي: وهو بحال غيبة عنه، إنما هي رسالة، ثم خصص من الأعمال إقامة الصلاة تنبيها عليها وتشريفا لها.

ثم حض سبحانه وتعالى على التزكي; بأن رجى عليه غاية الترجية، وقرأ طلحة : "ومن ازكى فإنما يزكى لنفسه". ثم توعد تعالى بعد ذلك بقوله: وإلى الله المصير .

[ ص: 213 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وكل عبارة مقصرة عن تبيين فصاحة هذه الآية، وكذلك كتاب الله كله، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية