الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب

قوله تعالى: فغفرنا له ذلك معناه: سترنا، و"ذلك" إشارة إلى الذنب المتقدم، و"الزلفى": القربة والمكانة الرفيعة. و"المآب": المرجع في الآخرة، من: آب يؤوب إذا رجع. وبعد هذا حذف يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره: وقلنا له: يا داود إنا جعلناك خليفة ، واستدل بعض الناس من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وليس هذا بلازم من الآية، بل لزومه من الشرع والإجماع، ولا يقال: "خليفة الله" إلا لرسوله، وأما الخلفاء: فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله، فذلك تجوز وغلو، كما قال ابن قيس الرقيات:


خليفة الله في بريته ... جفت بذاك الأقلام والكتب



ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى، فقالوا لأبي بكر الصديق :

[ ص: 343 ] خليفة رسول الله، فبهذا كان يدعى مدته، فلما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله، فطال الأمر، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر فدعوه: أمير المؤمنين ، وقصر هذا الاسم على الخلفاء.

وقوله عز وجل: إن الذين يضلون عن سبيل الله إلى قوله: وليتذكر أولو الألباب اعتراض بين الكلامين من أمر داود وسليمان، هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وعظة لأمته، ووعيد للكفرة به. وقرأ أبو حيوة: "يضلون" بضم الياء. و"نسوا" معناه - في هذه الآية -: تركوا.

وأخبر تعالى أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماء والأرض وما بينهما إنما هو باطل لا معنى له، وأن الأمر ليس يؤول إلى ثواب ولا إلى عقاب، وأخبر تعالى عن كذب ظنهم، وتوعدهم بالنار. ثم وقف تعالى على الفرق - عنده - بين المؤمنين العاملين بالصالحات، وبين المفسدين الكفرة، وبين المتقين والفجار. وفي هذا التوقيف حض على الإيمان وترغيب فيه، ووعيد للكفرة.

ثم أحال في طلب الإيمان والتقوى على كتابه العزيز بقوله: كتاب أنزلناه ، المعنى: هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع، كإعجاز القرآن العزيز. ووصفه بالبركة لأن أجمعها فيه; لأنه يورث الجنة، وينقذ من النار، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا، ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة. وقرأ الجمهور: ليدبروا بالياء بشد الدال والباء، والضمير للعالم، وقرأ حفص عن عاصم : "لتدبروا" بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو بكر عنه بتخفيف الدال، أصله: تتدبروا، وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن، فالترتيل إذا أفضل لهذا; إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل، وباقي الآية بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية