الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم

قال ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي ، والضحاك : إن هذه الآية منسوخة [ ص: 640 ] بآية السيف التي في (براءة ) : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وإن الأسر والمن والفداء مرتفع، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقال ابن عمر ، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، وعطاء ما معناه: إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك، والمن والفداء ثابت، وقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال، وفادى أسرى بدر، وقاله الحسن، وقال: لا يقتل الأسير إلا في الحرب، يهيب بذلك على العدو، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يفادي رجلا برجل، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال، وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين، وقالت فرقة: هذه الآية خصصت من الأخرى بأهل الكتاب فقط، ففيهم المن والفداء، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل.

وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان، وقوله تعالى هنا: فضرب الرقاب بمثابة قوله تعالى هناك: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وصرح هنا بذكر المن والفداء، ولم يصرح به هناك وهو أمر مقرر، وهذا هو القول القوي.

وقوله تعالى: فضرب الرقاب مصدر بمعنى الفعل، أي: فاضربوا رقابهم، وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره، والمراد: اقتلوهم بأي وجه أمكن، وقد زادت آية أخرى: واضربوا منهم كل بنان ، وهي من أنكى ضربات الحرب، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده; إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها. و أثخنتموهم معناه: بالقتل. و"الإثخان" في القوم أن يكثر فيهم القتلى والجرحى، والمعنى: فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر، و"منا" و"فداء" مصدران منصوبان بفعلين مضمرين. وقرأ جمهور الناس: "فداء"، وقرأ شبل عن ابن كثير : "فدى"، مقصورا.

وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه: القتل أو الاسترقاق أو ضرب [ ص: 641 ] الجزية أو الفداء، ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك.

وقوله تعالى: حتى تضع الحرب أوزارها معناه: حتى تذهب وتزول أثقالها، و"الأوزار" جمع وزر - الأثقال فيها والآلات لها، ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:


وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا



وقال الثعلبي : وقيل: الأوزار في هذه الآية الآثام، جمع وزر ; لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين.

واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحرب أوزارها، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها، وقال حذاق أهل النظر: حتى تغلبوهم وتقتلوهم، وقال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم عليهما السلام.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبدا، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة، فإنما ترد أن تفعله دائما.

وقوله تعالى: "ذلك" تقديره: الأمر ذلك، ثم قوله تعالى: ولو يشاء الله لانتصر منهم أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين، وأن يبلو بعض الناس ببعض. وقرأ جمهور القراء: "قاتلوا"، وقرأ عاصم ، الجحدري - بخلاف عنه -: "قتلوا" بفتح القاف والتاء، وقرأ أبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، والأعرج ، وقتادة ، والأعمش : "قتلوا" بضم القاف وكسر التاء، وقرأ زيد بن ثابت ، [ ص: 642 ] والحسن والجحدري، وعيسى ، وأبو رجاء هكذا وشددوا التاء، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى.

وقال قتادة : نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد، وقوله تعالى: "سيهديهم" أي: إلى طريق الجنة، وقد تقدم القول في إصلاح البال، وقد روى عباس بن المفضل عن أبي عمرو : "ويدخلهم" بسكون اللام، وفي التغابن يوم يجمعكم ، وفي سورة الإنسان إنما نطعمكم بسكون الطاء والميم.

وقوله تعالى: عرفها لهم ، قال أبو سعيد الخدري ، وقتادة ، ومجاهد : معناه: بينها لهم، أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا"، وقالت فرقة: معناه: سماها لهم ورسمها، كل منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة: معناه: شرفها لهم ورفعها وعلاها، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، ومنه أعراف الخيل، وقال مؤرج وغيره: معناه: طيبها، مأخوذ من العرف، ومنه طعام معرف، أي: مطيب، وعرفت القدر، أي: طيبتها بالملح والتوابل.

وقوله تعالى: إن تنصروا الله فيه حذف مضاف، أي: دين الله ورسوله، والمعنى: تنصروه بجدكم واتباعكم وإيمانكم، ينصركم بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعارف. وقرأ جمهور الناس: "ويثبت" بفتح التاء المثلثة وشد الباء، وقرأ المفضل عن عاصم : "ويثبت" بسكون الثاء وتخفيف الباء، وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام، وقيل: على الصراط في القيامة.

وقوله تعالى: فتعسا لهم معناه: عثارا لهم وهلاكا، وهي لفظة تقال للكافر، ومنه قول الشاعر:

[ ص: 643 ]

يا سيدي إن عثرت خذ بيدي ...     ولا تقل: لا ولا تقل تعسا



وقال الأعشى في هذا المعنى:


بذات لوت عفرناة إذا عثرت ...     فالتعس أدنى لها من أن أقول: لعا



ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها: تعس مسطح ، قال ابن السكيت : التعس: أن يخر على وجهه، و"تعسا" مصدر نصبه فعل مضمر.

وقوله تعالى: كرهوا ما أنزل الله يريد القرآن، وقوله سبحانه: فأحبط أعمالهم يقتضي أن أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة، ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاتهم، واختلف الناس في حسناتهم، فقالت فرقة: هي ملغاة، يثابون عليها بنعم الدنيا فقط، وقالت فرقة: هي محصاة من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أن [الكافر] قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحد التأويلين في قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما سلف لك من خير"، فقوم قالوا: [ ص: 644 ] تأويله: أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير، وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه، وقالت فرقة: معناه: أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير، إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك، وذكر الطبري أن أعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها هي عبادتهم الأصنام وكفرهم، ومعنى "أحبط": جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به، فهي لذلك كالذي أحبط.

التالي السابق


الخدمات العلمية