الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون

"الأمانات" جمع أمانة، وجمعها لأنها تكون متنوعة من حيث هي في الأموال والأسرار، وفيما بين العبد وربه فيما أمره ونهاه عنه، قال الحسن: الدين كله أمانة، وقرأ ابن كثير وحده من السبعة: "لأمانتهم" بالإفراد، و"العهد": كل ما تقلده الإنسان من قول أو فعل أو مودة، إذا كانت هذه الأشياء على طريق البر فهو عهد ينبغي رعيه وحفظه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسن العهد من الإيمان". و"راعون" جمع راع أي: حافظ.

وقوله تعالى: والذين هم بشهاداتهم قائمون معناه -في قول جماعة من المفسرين- أنهم يحفظون ما يشهدون فيه ويتيقنونه ويقومون بمعانيه حتى لا يكون لهم فيه تقصير، وهذا هو وصف من تمثيل قول النبي عليه الصلاة والسلام "على مثل الشمس فاشهد"، وقال آخرون: معناه: الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يدرس، أو حرمة لله تعالى تنتهك قاموا بشهادتهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: شهادتهم في هذه الآية أن الله تعالى وحده لا شريك له، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". واختلف الناس في معنى هذا الحديث بحسب المعنيين اللذين ذكرنا في الآية: إحداهما أن يكون يحفظهما متقنة فيأتي بها ولا يحتاج أن يستفهم [ ص: 411 ] عن شيء منها ولا أن يعارض، والثاني إذا ما رأى حقا يعمل بخلافه وعنده في إحياء الحق شهادة، وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيأتي قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن"، واختلف الناس في معنى هذا الحديث، فقال بعضهم: هم قوم مؤمنون يتعرضون ويحرصون على وضع أسمائهم في وثائق الناس، وينصبون لذلك الحبائل من زي وهيئة، وهم غير عدول في أنفسهم، فيغرون بذلك ويضرون.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فهذا في ابتداء الشهادة لا في أدائها، ويجيء قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يستشهدون"، أي: وهم غير أهل لذلك.

وقال آخرون من العلماء: هم شهود الزور، يؤدونها والمشهود عليهم لم يشهدهم ولا الآخر.

وقرأ حفص عن عاصم : "بشهاداتهم" على الجمع، وهي قراءة عبد الرحمن ، والباقون "بشهادتهم" على الإفراد الذي هو اسم الجنس. و"المحافظة على الصلاة" إقامتها في أوقاتها بشروط صحتها وكمالها، وقال ابن جريج : يدخل في هذه الآية التطوع. وقوله تعالى: فمال الذين كفروا قبلك مهطعين الآية. نزلت لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يتسمعون قراءته، ويقول بعضهم لبعض: شاعر وكاهن ومفتر وغير ذلك. و"قبلك" معناه: فيما يليك، و"المهطع" الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل عليه ببصره، وقال ابن زيد : لا يطرف.

[ ص: 412 ] و"عزين" جمع عزة، قال بعض النحاة: أصلها عزوة، وقال آخرون منهم، أصلها عزهة وجمعت بالواو والنون عوضا مما انحذف منها نحو سنة وسنون، ومعنى العزة: الجمع اليسير، فكأنهم قالوا: ثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ومنه قول الراعي:


أخليفة الرحمن إن عشيرتي ... أمسى سراتهم إليك عزينا



وقال أبو هريرة رضي الله عنه: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم حلق متفرقون فقال: "ما لي أراكم عزين"؟ . وقوله تعالى: أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم نزلت لأن بعض الكفار قالت: إن كانت ثم آخرة وجنة فنحن أهلها وفيها; لأن الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين وغير ذلك إلا لرضاه عنا. وقرأ السبعة، والحسن ، والجمهور: "يدخل" بضم الياء وفتح الخاء على البناء للمفعول، وقرأ المفضل عن عاصم ، وابن يعمر ، وأبو رجاء وطلحة : "يدخل" بفتح وضم الخاء على بناء الفعل للفاعل، وقوله تعالى: "كلا" رد لقولهم وطمعهم، أي: ليس الأمر كذلك.

ثم أخبر تعالى عن خلقهم من نطفة قذرة، فأحال في العبارة عنها إلى علم الناس، أي: من خلق من ذلك فليس بنفس خلقه يعطى الجنة، بل بالأعمال الصالحة إن كانت، وقال قتادة في تفسيرها: إنما خلقت من قذر يا ابن آدم فاتق الله تعالى، وقال أنس : كان أبو بكر رضي الله عنه إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم، ومروره في مجرى البول مرتين، وكونه نطفة في الرحم ثم علقة ثم مضغة إلى أن يخرج فيتلوث في نجساته طفلا، فلا يقلع أبو بكر رضي الله عنه حتى يقذر أحدنا نفسه.

التالي السابق


الخدمات العلمية