الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم [ ص: 465 ] حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة

هذا هو اعتراف الكفار على أنفسهم، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالإيمان بالله تعالى والمعرفة به، والخشوع له والعبادة. والصلاة تنتظم معظم الدين وأوامر الله تعالى وواجبات العقائد. وإطعام المساكين ينتظم الصدقة فرضا وطواعية وكل احتمال تندب إليه الشريعة بقول أو فعل. والخوض مع الخائضين عرفه في الباطل، قال قتادة : المعنى كلما غوى غاو غووا معه، والتكذيب بيوم الدين كفر صراح بالله تعالى.

و"اليقين" معناه عندي: صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة، وقال المفسرون: اليقين الموت، وذلك عندي -هنا- متعقب; لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي، فإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت، وإنما يفسر اليقين بالموت في قوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .

ثم أخبر تعالى أن شفاعة الشافعين لا تنفعهم، فتقرر من ذلك أن ثم شافعين، وفي صحة هذا المعنى أحاديث، قال صلى الله عليه وسلم: "يشفع الملائكة ثم النبيون ثم العلماء ثم الشهداء ثم الصالحون يشفعون، ثم يقول الله تعالى: شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فلا يبقى في النار من كان له إيمان"، وروى الحسن أن الله تعالى يدخل بشفاعة رجل من هذه الأمة الأمة إلى الجنة مثل ربيعة ومضر، وفي رواية أبي قلابة : أكثر من بني [ ص: 466 ] تميم. وقال الحسن: كنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.

ثم قال تعالى وجل: فما لهم عن التذكرة معرضين ، أي والحال المنتظرة هي هذه الموصوفة؟ وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين في تول واجتهاد في نفور كأنهم حمر مستنفرة إثبات لجهالتهم، لأن الحمر من جاهل الحيوان جدا، وقرأ الأعمش : "حمر" بإسكان الميم، وفي حرف ابن مسعود : "حمر نافرة"، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والمفضل عن عاصم : "مستنفرة" بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسر الفاء، واختلف عن نافع ، وعن الحسن، والأعرج ، ومجاهد ، فأما فتح الفاء فمعناه: استنفرها فزعها من القسورة، وأما كسر الفاء فعلى أن "نفر" و"استنفر" بمعنى واحد، بمنزلة "عجب" و"استعجب" و"سخر" و"استسخر"، فكأنها نفرت هي، ويقوي ذلك قوله تعالى: "فرت"، وبذلك رجح أبو علي قراءة الكسر.

واختلف المفسرون في معنى "القسورة"، فقال ابن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وقتادة ، وعكرمة : القسورة: الرماة، وقال ابن عباس أيضا، وأبو هريرة ، وجمهور من اللغويين: القسورة: الأسد، وقول الشاعر:


مضمر تحذره الأبطال كأنه القسورة الرئبال



[ ص: 467 ] وقال ابن جبير : "القسورة" : رجال القنص، وقاله ابن عباس أيضا، وقيل: "القسورة": ركز الناس، وقيل: القسورة: الرجال الشداد، قال لبيد :


إذا ما هتفنا هتفة في ندينا     أتانا الرجال العاندون القساور



وقال ثعلب: القسورة: سواد أول الليل خاصة لآخره. أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر.

وقوله تعالى: بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة معناه: من هؤلاء المعرضين، أي يريد كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتاب من الله، وكان هذا من قول عبد الله بن أبي أمية وغيره، وروي أن بعضهم قال: إن كان يكتب في صحف ما يعمل فلتعرض ذلك الصحف علينا، فنزلت الآية. و"منشرة" معناه: غير مطوية، منشورة وقرأ سعيد بن جبير : "صحفا" بسكون الحاء، وهي لغة تميمة، وقرأ: "منشرة" بسكون النون وتخفيف الشين، وهذا على أن يشبه "نشرت الثوب" بـ "أنشر الله الميت"; إذا لطى كالموت، وقد عكس التيمي التشبيه في قوله:


ردت صنائعه عليه حياته     فكأنه من نشرها منشور



ولا يقال في الميت يحيا: منشور إلا على التشبيه بالثوب، وأما محفوظ اللغة فهو [ ص: 468 ] "نشرت الصحيفة" و"أنشر الله الميت"، وقد جاء عنهم "نشر الله الميت".

وقوله تعالى: "كلا" رد على إرادتهم، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال تعالى: بل لا يخافون الآخرة ، المعنى: هذه العلة والسبب في إعراضهم، فكان جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم من الهدى حتى هلكوا. وقرأ أبو حيوة: "تخافون" بالتاء من فوق، ورويت عن ابن عامر . ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله تعالى: "كلا"، وأخبر أن هذا القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها تذكرة، فمن شاء وفقه لذكر معاده، ثم أخبر أن ذكر الإنسان معاده، وجريه إلى فلاحه إنما هو كله بمشيئة الله تعالى، وليس يكون شيء إلا بها.

وقرأ نافع ، وأهل المدينة، وسلام، ويعقوب: "تذكرون" بالتاء من فوق، وقرأ أبو جعفر ، وعاصم ، وأبو عمرو ، والأعمش ، وطلحة ، وابن كثير ، وعيسى ، والأعرج : "يذكرون" بالياء من تحت، وروي عن أبي جعفر بالتاء من فوق وشد الذال، كأنه "تتذكرون" فأدغم.

وقوله تعالى: هو أهل التقوى وأهل المغفرة خبر جزم، معناه أن الله تعالى أهل بصفاته العلى، ونعمه التي لا تحصى، ونقمه التي لا تدفع، لأن يتقى ويطاع، ويحذر عصيانه وخلاف أمره، وأنه تعالى بفضله وكرمه أهل لأن يغفر لعباده إذا اتقوه، وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: "يقول ربكم جلت عظمته: أنا أهل أن أتقي فلا يجعل معي إله غيري، ومن اتقى أن يجعل معي إلها غيري فأنا أغفر له"، وقال قتادة : هو أهل لأن تتقى محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب.

كمل تفسير سورة [المدثر] والحمد لله رب العالمين

التالي السابق


الخدمات العلمية