الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 233 ] قوله عز وجل:

فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين

قبل هذه الآية متروك، به يتم اتساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى عليه السلام كما بشر الله به، فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل فلما أحس ومعنى "أحس": علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه، ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض; يقال: أحسست بالشيء وحسيت به، أصله: حسست فأبدلت إحدى السينين ياء. و"الكفر" هو التكذيب به، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله، فحينئذ طلب النصر، والضمير في "منهم" لبني إسرائيل.

وقوله تعالى: قال من أنصاري إلى الله عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم. وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها. بـ قال من أنصاري إلى الله . ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله للناس. والأنصار: جمع نصير، كشهيد وأشهاد وغير ذلك، وقيل: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب. وقوله: "إلى الله" يحتمل معنيين، أحدهما: من ينصرني في السبيل إلى الله؟ فتكون "إلى" دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها، والمعنى الثاني: أن يكون التقدير: من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي؟ فيكون بمنزلة قوله: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء.

[ ص: 234 ] وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى- "مع"، ونعم إن "مع" تسد في هذه المعاني مسد "إلى" لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن "إلى" بمعنى "مع"، حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى: وأيديكم إلى المرافق . فقال: "إلى" بمعنى "مع" وهذه عجمة، بل "إلى" في هذه الآية غاية مجردة، وينظر هل يدخل ما بعد "إلى" فيما قبلها من طريق آخر؟.

و"الحواريون" قوم مر بهم عيسى عليه السلام فدعاهم إلى نصره واتباع ملته، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام، وصبروا في ذات الله. وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك. واختلف الناس; لم قيل لهم الحواريون؟ فقال سعيد بن جبير: سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها، وقال أبو أرطأة: سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب، أي يبيضونها، وقال قتادة، الحواريون: أصفياء الأنبياء، الذين تصلح لهم الخلافة، وقال الضحاك نحوه، وهذا تقرير حال القوم وليس بتفسير اللفظة; وعلى هذا الحد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمته بهم في قوله: "وحواري الزبير" والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ، إذ هي من الحور، وهو البياض، حورت الثوب: بيضته، ومنه الحواري. وقد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار: الحواريات، لغلبة البياض عليهن، ومنه قول أبي جلدة اليشكري:

[ ص: 235 ]

فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح



وذكر مكي أن مريم دفعت عيسى عليه السلام في صغره في أعمال شتى، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين، وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها، فأراهم آيات وصبغ لهم ألوانا شتى من ماء واحد.

وقرأ جمهور الناس: "الحواريون" بتشديد الياء، واحدهم "حواري" وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي، وقرأ إبراهيم النخعي وأبو بكر الثقفي: "الحواريون" مخففة الياء في جميع القرآن. قال أبو الفتح: العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها، ومتى جاءت في نحو قولهم: العاديون والقاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها، فيجيء العادون ونحوه، فكان يجب على هذا أن يقال: الحوارون، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالا لتضعيفها، وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد، إذ التشديد محتمل للضمة، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزيون، إلى أن أخلص الهمزة ياء البتة، وحملها الضمة تذكرا لحال الهمزة المرادة فيها.

وقول الحواريين: "واشهد" يحتمل أن يكون خطابا لعيسى عليه السلام، أي: اشهد لنا عند الله، ويحتمل أن يكون خطابا لله تعالى كما تقول: أنا أشهد الله على كذا، إذا عزمت وبالغت في الالتزام، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: "اللهم اشهد". قال الطبري: وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران، أي: هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى، لا ما تقولونه أنتم، يا من يدعي له الألوهية.

وقوله: ربنا آمنا بما أنزلت يريدون الإنجيل وآيات عيسى. و"الرسول" عيسى عليه السلام. وقولهم: فاكتبنا مع الشاهدين عبارة عن الرغبة في أن يكونوا عنده في عداد من [ ص: 236 ] شهد بالحق من مؤمني الأمم، ولما كان البشر يقيد ما يحتاج إلى علمه وتحقيقه في ثاني حال بالكتاب، عبروا عن فعل الله بهم ذلك. وقال ابن عباس: قولهم "مع الشاهدين" معناه: اجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أن نكون ممن يشهد على الناس.

ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى، فقال: "ومكروا" يريد تحيلهم في أخذ عيسى للقتل بزعمهم، ويروى أنهم تحيلوا له، وأذكوا عليه العيون حتى دخل هو والحواريون بيتا فأخذوهم فيه، فهذا مكر بني إسرائيل، وجازاهم الله تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين ورفع عيسى، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهوانا في الدنيا والآخرة. فهذه العقوبة هي التي سماها الله مكرا في قوله ومكر الله وذلك مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه; وعلى هذا فسر جمهور المفسرين الآية، وعلى أن عيسى قال للحواريين: من يصبر فيلقى عليه شبهي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحدهم: أنا، فكان ذلك. وروى قوم أن بني إسرائيل دست يهوديا جاسوسا على عيسى حتى صحبه ودلهم عليه ودخل معه البيت، فلما أحيط بهم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل اليهودي فأخذ وصلب. فهذا معنى قوله: ومكروا ومكر الله وهذه أيضا تسمية عقوبة باسم الذنب. والمكر في اللغة: السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي.

وقوله: والله خير الماكرين معناه: في أنه فاعل حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل، والله سبحانه أشد بطشا وأنفذ إرادة، فهو خير من جهات لا تحصى، لا إله إلا هو. وذكر حصر عيسى عليه السلام، وعدة أصحابه به وأمر الشبه وغير ذلك من أمره سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية