الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله

الضمير في "منهم" عائد على أهل الكتاب; والفريق: الجماعة من الناس، هي مأخوذة من فرق إذا فصل وأبان شيئا عن شيء. و"يلوون" معناه: يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم: سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع ونحو ذلك، وليس التبديل المحض بلي، [ ص: 265 ] وحقيقة اللي في الثياب والحبال ونحوها: فتلها وإراغتها، ومنه لي العنق، ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيها بتلك الإراغة التي في الأجرام، فمنه قولهم: خصم ألوى، ومنه قول الشاعر:


فلو كان في ليلى شذى من خصومة للويت أعناق الخصوم الملاويا



وقال الآخر:

ألفيتني ألوى بعيد المستمر.



وقرأ جمهور الناس: "يلوون" مضارع لوى، على وزن فعل بتخفيف العين، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح: "يلوون" بتشديد الواو وفتح اللام من لوى، على وزن فعل بتشديد العين، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية. وقرأ حميد: "يلون" بضم اللام وسكون الواو، وهي في الأصل: "يلون" مثل قراءة الجماعة، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات، فجاء-يلؤون- فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء "يلون". والكتاب في هذا الموضع: التوراة، وضمير الفاعل في قوله: "لتحسبوه" هو للمسلمين.

وقوله: وما هو من عند الله نفي أن يكون منزلا كما ادعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد، ومنهم بالتكسب، ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله: وما هو من عند الله وقد تقدم نظير قوله تعالى: ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .

وقوله تعالى: ما كان لبشر معناه: لأحد من الناس. والبشر: اسم جنس يقع [ ص: 266 ] للكثير والواحد، ولا مفرد له من لفظه، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه، كقوله تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله وقوله تعالى: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها فهذا منتف عقلا، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين و:"الكتاب" في هذه الآية اسم جنس، "والحكم" بمعنى: الحكمة، ومنه قول النبي عليه السلام: "إن من الشعر لحكما"، و"ثم" في قوله تعالى: "ثم يقول" معطية تعظيم الذنب في القول، بعد مهلة من هذا الإنعام.

وقوله "عبادا" هو جمع عبد، ومن جموعه عبيد وعبدى قال بعض اللغويين: هذه الجموع بمعنى، وقال قوم: العباد لله، والعبيد والعبدى للبشر، وقال قوم: العبدى، إنما تقال في العبيد بني العبيد، وكأنه بناء مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية. والذي استقريت في لفظة العباد: أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن; وانظر قوله تعالى: والله رءوف بالعباد "عباد مكرمون" يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله: إن تعذبهم فإنهم عبادك فنوه بهم. وقال بعض اللغويين: إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد، فلم ينته بهم إلى اسم العبيد. وقال قوم: بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد، كأنه انتساب إلى عبادة الله. وأما العبيد فيستعمل في تحقير، ومنه قول امرئ القيس: .

[ ص: 267 ]

قولا لدودان عبيد العصا ...     ما غركم بالأسد الباسل



ومنه قول حمزة بن عبد المطلب: "وهل أنتم إلا عبيد لأبي" ومنه قول الله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك. ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة.

ومعنى قوله: كونوا عبادا لي من دون الله اعبدوني واجعلوني إلها.

واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى: ما كان لبشر فقال النقاش وغيره: الإشارة إلى عيسى عليه السلام، والآية رادة على النصارى الذين قالوا: عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره. وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين: بل الإشارة إلى محمد عليه السلام. وسبب نزول الآية: أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران: يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى، فقال الرئيس من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله، ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت" فنزلت الآية في ذلك. قال بعض العلماء: أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمدا صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ، وإنما معنى الآية: فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأويلهم، وهذا من نوع ليهم الكتاب بألسنتهم.

[ ص: 268 ] وقرأ جمهور القراء: "ثم يقول" بالنصب، وروى شبل عن ابن كثير، ومحبوب عن أبي عمرو: "ثم يقول" برفع اللام، وهذا على القطع وإضمار مبتدأ، وقرأ عيسى بن عمر: "عبادا لي" بتحريك الياء مفتوحة.

التالي السابق


الخدمات العلمية