الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى :

رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا

"رسلا"؛ بدل من الأول قبل؛ و"مبشرين ومنذرين"؛ حالان؛ أي: يبشرون بالجنة من آمن؛ وأطاع؛ وينذرون بالنار من كفر؛ وعصى؛ وأراد الله تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إلي لآمنت؛ والله تعالى عزيز؛ لا يغالبه شيء؛ ولا حجة لأحد عليه؛ وهو - مع ذلك - حكيم؛ تصدر أفعاله عن حكمة؛ فكذلك قطع الحجة بالرسل حكمة منه تعالى .

وقوله تعالى : لكن الله يشهد ؛ الآية: سببها قول اليهود: ما أنزل الله على بشر من شيء ؛ وقال بعضهم لمحمد - عليه الصلاة والسلام -: ما نعلم يا محمد أن الله أرسل إليك؛ ولا أنزل عليك شيئا؛ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ؛ والجراح الحكمي: "لكن الله يشهد"؛ بشد النون؛ ونصب المكتوبة على اسم "لكن".

وقوله تعالى : أنزله بعلمه ؛ هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في [ ص: 71 ] إثبات علم الله تعالى ؛ خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم؛ والمعنى - عند أهل السنة -: أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله؛ ومذهب المعتزلة في هذه الآية أنه أنزله مقترنا بعلمه؛ أي: فيه علمه من غيوب؛ وأوامر؛ ونحو ذلك؛ فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن؛ كما هو في قول الخضر: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من هذا البحر"؛ معناه: من علم الله الذي بث في عباده؛ وقرأ الجمهور: "أنزل"؛ على بناء الفعل للفاعل؛ وقرأ الحسن: "أنزل"؛ بضم الهمزة؛ على بنائه للمفعول.

وقوله تعالى : والملائكة يشهدون ؛ تقوية لأمر محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ ورد على اليهود؛ قال قتادة : "شهود والله غير متهمة"؛ وقوله تعالى : وكفى بالله شهيدا ؛ تقديره: وكفى الله شهيدا؛ لكن دخلت الباء لتدل على أن المراد: اكتفوا بالله.

ثم أخبر تعالى عن الكافرين الذين يصدون الناس عن سبيل الله تعالى أنهم قد بعدوا عن الحق؛ وضلوا ضلالا بعيدا؛ لا يقرب رجوعهم عنه؛ ولا تخلصهم منه؛ وقرأ عكرمة ؛ وابن هرمز : "وصدوا"؛ بضم الصاد.

ثم أخبر تعالى عن الكافرين الظالمين في أن وضعوا الشيء في غير موضعه؛ وهو الكفر بالله؛ والله تعالى يستوجب منهم غير ذلك؛ لنعمه الظاهرة؛ والباطنة؛ إنهم بحيث لم يكن ليغفر لهم؛ وهذه العبارة أقوى من الإخبار المجرد أنه لا يغفر؛ ومثال ذلك أنك إذا قلت: "أنا لا أبيع هذا الشيء"؛ فهم منك الاغتباط به؛ فإذا قلت: "أنا ما كنت لأبيع هذا الشيء"؛ فالاغتباط منك أكثر؛ هذا هو المفهوم من هذه العبارة.

وقوله تعالى : ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم ؛ هذه هداية الطرق؛ وليست بالإرشاد على الإطلاق؛ وباقي الآية بين؛ يتضمن تحقير أمر الكفار؛ وأنهم لا يباليهم الله بالة؛ كما ورد في الحديث: "يذهب الصالحون؛ الأول فالأول حتى تبقى حثالة كحثالة التمر؛ لا يباليهم الله بالة"؛ المعنى: إذ هم كفار في آخر الزمان؛ وعليهم تقوم الساعة.

التالي السابق


الخدمات العلمية