الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير

في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه؛ وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع اليهود والنصارى يقولون عن جميعهم: نحن أبناء الله وأحباؤه ؛ وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة: نحن أبناء الله وأحباؤه ؛ والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان؛ والرأفة؛ وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى بني إسرائيل أن أول أولادي بكري؛ فضلوا بذلك؛ وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ؛ ولو صح ما رووا لكان معناه بكرا في التشريف؛ أو النبوة ونحوه؛ و"أحباء": جمع "حبيب"؛ وكانت هذه المقالة منهم عندما دعاهم النبي - صلى اللـه عليه وسلم - إلى الإيمان به؛ وخوفهم العذاب؛ فقالوا: "نحن لا نخاف ما تقول؛ لأننا أبناء الله وأحباؤه" وذكر ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ وقد كانوا قالوا للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - في غير ما موطن: "نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوما؛ ثم تخلفوننا فيها"؛ فرد الله عليهم بقولهم؛ فقال لمحمد - صلى اللـه عليه وسلم -: قل فلم يعذبكم بذنوبكم أي: لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم؛ وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة؛ وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله [ ص: 135 ] تعالى يعذبهم به في الدنيا؛ وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوبا على بابه ذكر ذنبه؛ وذكر عقوبته؛ فينفذ ذلك عليه؛ فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب؛ ينافي أنهم أبناء؛ وأحباء.

ثم ترك الكلام الأول؛ وأضرب عنه غير مفسد له؛ ودخل في غيره من تقرير كونهم بشرا كسائر الناس والخلق؛ أكرمهم أتقاهم؛ يهدي من يشاء للإيمان؛ فيغفر له؛ ويورط من يشاء في الكفر؛ فيعذبه؛ وله ملك السماوات والأرض وما بينهما؛ فله بحق الملك أن يفعل ما شاء؛ لا معقب لحكمه؛ وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.

وقوله تعالى: يا أهل الكتاب ؛ خطاب لليهود والنصارى؛ والرسول في قوله: "رسولنا": محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وقوله: على فترة من الرسل ؛ أي: على انقطاع من مجيئهم مدة ما؛ والفترة: سكون بعد حركة في جرم؛ ويستعار ذلك في المعاني؛ وقد قال النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "لكل عمل شرة؛ ولكل شرة فترة"؛ وقال الشاعر:


وإني لتعروني لذكراك فترة ... .................



معناه سكون بعد اضطراب.

واختلف الناس في قدر الفترة التي كانت بين عيسى - عليه السلام -؛ ومحمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فقال قتادة : خمسمائة عام وستون عاما؛ وقال الضحاك : أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة؛ وفي الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة؛ وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء؛ قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ وقوله [ ص: 136 ] تعالى: "أن تقولوا"؛ مفعول من أجله؛ المعنى: حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة: ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم ؛ وقامت الحجة عليكم؛ والله على كل شيء قدير ؛ فهو الهادي؛ والمضل؛ والمنعم؛ والمعذب؛ لا رب غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية