الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 367 ] قوله - عز وجل -:

ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

المراد بـ "الذين"؛ ضعفة المؤمنين؛ في ذلك الوقت؛ في أمور الدنيا: بلال ؛ وعمار ؛ وابن أم عبد؛ ومرثد الغنوي؛ وخباب ؛ وصهيب ؛ وصبيح؛ وذو الشمالين؛ والمقداد ؛ ونحوهم.

وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "نحن لشرفنا؛ وأقدارنا؛ لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء؛ فلو طردتهم لاتبعناك؛ وجالسناك"؛ ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود ؛ وقيل: إنما قال هذه المقالة أبو طالب؛ على جهة النصح للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ قال له: "لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك"؛ وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك؛ وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة؛ فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيره من المؤمنين؛ فنزلت الآية.

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة؛ ويكونوا هم موضعهم؛ ويؤمنوا إذا طرد هؤلاء من الصف الأول؛ فنزلت الآية؛ أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس؛ ومن شابهه من أشراف العرب؛ قالوا للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "اجعل لنا منك مجلسا لا يخالطنا فيه العبد؛ والحلفاء؛ واكتب لنا كتابا"؛ فهم النبي - صلى اللـه عليه وسلم - بذلك؛ فنزلت هذه الآية.

[ ص: 368 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا تأويل بعيد في نزول الآية؛ لأن الآية مكية؛ وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة؛ وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم؛ ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة؛ اللهم إلا أن تكون الآية مدنية؛ قال خباب - رضي الله عنه -: ثم نزلت: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ؛ الآية؛ فكنا نأتي فيقول لنا - صلى اللـه عليه وسلم -: "سلام عليكم"؛ ونقعد معه - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فإذا أراد أن يقوم قام - صلى اللـه عليه وسلم - وتركنا؛ فأنزل الله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ؛ الآية؛ فكان - صلى اللـه عليه وسلم - يقعد معنا؛ فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه - صلى اللـه عليه وسلم - قمنا وتركناه حتى يقوم - صلى اللـه عليه وسلم.

و يدعون ربهم بالغداة والعشي ؛ قال الحسن بن أبي الحسن: المراد به صلاة مكة؛ التي كانت مرتين في اليوم؛ بكرة؛ وعشيا؛ وقيل: بل قوله: بالغداة والعشي ؛ عبارة عن استمرار الفعل؛ وأن الزمن معمور به؛ كما تقول: "الحمد لله بكرة وأصيلا"؛ فإنما تريد: "الحمد لله تعالى في كل وقت"؛ والمراد - على هذا التأويل - قيل: هو الصلوات الخمس؛ قاله ابن عباس ؛ وإبراهيم؛ وقيل: الدعاء؛ وذكر الله تعالى ؛ واللفظة على وجهها؛ وقال بعض القصاص: إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشيا؛ فأنكر ذلك ابن المسيب ؛ وعبد الرحمن بن أبي عمرة؛ وغيرهما؛ وقالوا: إنما الآية في الصلوات في الجماعة؛ وقيل: قراءة القرآن؛ وتعلمه؛ قال أبو جعفر : ذكره الطبري ؛ وقيل: العبادة؛ قاله الضحاك .

وقرأ أبو عبد الرحمن ؛ ومالك بن دينار ؛ والحسن ؛ ونصر بن عاصم ؛ وابن عامر : "بالغدوة والعشي"؛ وروي عن أبي عبد الرحمن : "بالغدو"؛ بغير تاء؛ وقرأ ابن أبي عبلة : "بالغدوات والعشيات"؛ بألف فيهما؛ على الجمع؛ و"غدوة": معرفة؛ لأنها جعلت علما [ ص: 369 ] لوقت من ذلك اليوم بعينه؛ وجاز إدخال الألف واللام عليها؛ كما حكى أبو زيد : "لقيته فينة"؛ غير مصروف؛ و"الفينة بعد الفينة"؛ فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة؛ وحملا على ما حكاه الخليل أنه يقال: "لقيته اليوم غدوة"؛ منونا؛ ولأن فيها مع تعيين اليوم إمكان تقدير معنى الشياع؛ ذكره أبو علي الفارسي .

و"وجهه"؛ في هذا الموضع؛ معناه: جهة التزلف إليه؛ كما تقول: "خرج فلان في وجه كذا"؛ أي: "في مقصد؛ وجهة".

و ما عليك من حسابهم من شيء ؛ معناه: لم تكلف شيئا غير دعائهم؛ فتقدم أنت وتؤخر؛ ويظهر أن يكون الضمير في "حسابهم"؛ و"عليهم"؛ للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين؛ أي: "ما عليك منهم؛ آمنوا أو كفروا؛ فتطرد هؤلاء رعيا لذلك"؛ والضمير في "فتطردهم"؛ عائد على الضعفة من المؤمنين؛ ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء - أبدا - سبب ما قبلها؛ وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين؛ وحكى الطبري أن الحساب؛ هنا؛ إنما هو في رزق الدنيا؛ أي: "لا ترزقهم؛ ولا يرزقونك".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين؛ وذكره المهدوي؛ وذكر عن الحسن أنه من حساب عملهم؛ كما قال الجمهور؛ و"من"؛ الأولى للتبعيض؛ والثانية زائدة؛ مؤكدة؛ وقوله: "فتطردهم"؛ جواب النفي في قوله: "ما عليك"؛ وقوله: "فتكون"؛ جواب النهي في قوله: "ولا تطرد"؛ و "من الظالمين"؛ معناه: "الذين يضعون الشيء غير مواضعه".

وقوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ؛ الآية: "فتنا"؛ في هذه الآية؛ معناه: ابتلينا؛ فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى؛ وابتلاء [ ص: 370 ] المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوما لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين؛ وجعل لهم عند نبيه قدرا ومنزلة؛ والإشارة بـ "ذلك"؛ إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة؛ و"ليقولوا"؛ معناه: "ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا..."؛ فهي لام الصيرورة؛ كما قال تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ؛ أي: ليصير مثاله أن يكون لهم عدوا؛ وقول المشركين - على هذا التأويل -: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؛ هو على جهة الاستخفاف والهزء؛ ويحتمل الكلام معنى آخر؛ وهو أن تكون اللام في "ليقولوا"؛ على بابها في لام "كي"؛ وتكون المقالة منهم استفهاما لأنفسهم؛ ومباحثة لها؛ وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم؛ فمعنى الآية - على هذا التأويل -: "وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين؛ ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك؛ ويكون سبب نظر لمن هدي".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والتأويل الأول أسبق؛ والثاني يتخرج؛ و"من"؛ على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين؛ أي: "هؤلاء من الله عليهم؛ بزعمهم أن دينهم منة".

وقوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين ؛ أي: "يا أيها المستخفون - أو المتعجبون؛ على التأويل الآخر - ليس الأمر أمر استخفاف؛ ولا تعجب؛ فالله تعالى أعلم بمن يشكر نعمته؛ وبالمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها؛ فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير؛ إذ ذلك بين؛ لا تمكنهم فيه معاندة".

التالي السابق


الخدمات العلمية