الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون

لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - وحده؛ واختلف في معناه؛ فقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا هو الصحيح؛ لأن علة النهي - وهي سماع الخوض في آيات الله تعالى - تشملهم وإياه - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وقيل: بل المعنى أيضا أريد به النبي - صلى اللـه عليه وسلم - وحده؛ لأن قيامه عن المشركين كان يشق [ ص: 385 ] عليهم؛ وفراقه لهم على مغاضبة؛ وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك؛ فأمر النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا؛ ليتأدبوا بذلك؛ ويدعوا الخوض والاستهزاء؛ وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير - يرحمه الله.

والخوض أصله في الماء؛ ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل؛ تشبيها بغمرات الماء.

"وإما": شرط؛ وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب؛ وقد لا تلزم؛ كما قال:


إما يصبك عدو في مناوأة ... ................



إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقرأ ابن عامر وحده "ينسينك"؛ بتشديد السين؛ وفتح النون؛ والمعنى واحد؛ إلا أن التشديد أكثر مبالغة.

والذكرى؛ والذكر واحد في المعنى؛ وإنما هو تأنيث لفظي؛ ووصفهم هنا بـ "الظالمين"؛ متمكن؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه؛ و"أعرض"؛ في هذه الآية بمعنى المفارقة؛ على حقيقة الإعراض؛ وأكمل وجوهه؛ ويدل على ذلك: "فلا تقعد".

وقوله تعالى وما على الذين يتقون من حسابهم ؛ الآية؛ المراد بـ "الذين"؛ هم المؤمنون؛ والضمير في "حسابهم"؛ عائد على "الذين يخوضون"؛ ومن قال: إن المؤمنين داخلون في قوله: "فأعرض"؛ قال: إن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - داخل في هذا القصد بـ "الذين يتقون"؛ والمعنى عندهم - على ما روي - أن المؤمنين قالوا - لما نزلت: "فلا تقعد" - معهم: "إذا كنا لا نقرب المشركين؛ ولا نسمع أقوالهم؛ فما يمكننا طواف؛ ولا قضاء عبادة في الحرم"؛ فنزلت لذلك: وما على الذين يتقون .

[ ص: 386 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين؛ في عبادة؛ ونحوها؛ وقال بعض من يقول: "إن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - داخل في: الذين يتقون ؛ وإن المؤمنين داخلون في الخطاب الأول": إن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه؛ وإنما معناها: "لا تقعدوا معهم؛ ولا تقربوهم؛ حتى لا تسمعوا استهزاءهم؛ وخوضهم؛ وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا من حسابهم؛ وإنما هو ذكرى لكم"؛ ويحتمل المعنى أن يكون لهم: "لعلهم إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء"؛ وأما من قال: "إن الخطاب الأول هو مجرد للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - لثقل مفارقته مغضبا على الكفار"؛ فإنه قال في هذه الآية الثانية: إنها مختصة بالمؤمنين؛ ومعناها الإباحة؛ فكأنه قال: "فلا تقعد معهم يا محمد؛ وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم؛ فإن قعدوا فليذكروهم لعلهم يتقون الله تعالى في ترك ما هم فيه".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا القول أشار إليه النقاش ؛ ولم يوضحه؛ وفيه عندي نظر؛ وقال قائل هذه المقالة: إن هذه الإباحة للمؤمنين نسخت بآية "النساء"؛ قوله - تبارك وتعالى -: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ؛ وكذلك أيضا من قال أولا: "إن الإباحة كانت بحسب العبادات"؛ يقول: إن هذه الآية التي في "النساء" ناسخة لذلك؛ إذ هي مدنية؛ والإشارة بقوله: "وقد نزل"؛ إليها بنفسها؛ فتأمله؛ وإلا فيجب أن يكون الناسخ غيرها؛ و"ذكرى"؛ على هذا القول؛ يحتمل أن يكون: "ذكروهم ذكرى"؛ ويحتمل: "ولكن أعرضوا متى أعرضتم في غير وقت العبادة ذكرى"؛ و"ذكرى"؛ على كل قول؛ يحتمل أن تكون في موضع نصب؛ بإضمار فعل؛ أو رفع بإضمار مبتدإ.

وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين؛ وأهل الجدال والخوض فيه؛ وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال: "لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله تعالى ".

التالي السابق


الخدمات العلمية