الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين

"وكم"؛ في موضع رفع بالابتداء؛ والخبر "أهلكناها"؛ ويصح أن يكون الخبر في قوله تعالى "فجاءها"؛ و"أهلكناها"؛ صفة؛ ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها؛ تقديره: "وكم أهلكنا من قرية أهلكناها"؛ وقدر الفعل بعدها - وهي خبرية - تشبيها لها بالاستفهامية؛ في أن لها - في كل حال - صدر الكلام؛ وقالت فرقة: المراد: "وكم من أهل قرية"؛ وحذف المضاف؛ وأقيم المضاف إليه مقام المضاف؛ وقالت فرقة: إنما عبر تعالى بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا أهلك البشر وقريتهم؛ وقد بين تعالى في آخر الآية بقوله - سبحانه -: "أو هم"؛ أن البشر داخلون في الهلاك؛ فالآية - على هذا التأويل - [ ص: 512 ] تتضمن هلاك القرية؛ وأهلها جميعا؛ وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل.

والمراد بالآية التكثير؛ وقرأ ابن أبي عبلة : "وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا"؛ وقوله تعالى "فجاءها"؛ يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك؛ وذلك مستحيل؛ فلم يبق إلا أن يعدل عن ظاهر هذا التعقيب؛ فقيل: الفاء قد تجيء بمنزلة الواو؛ ولا تعطى رتبة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف:

وقيل: عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك؛ قال مكي في "المشكل": مثل قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا يحتج به من قال: الفاء في هذه الآية لتعقيب القول؛ وقيل: المعنى: "أهلكناها بالخذلان؛ وقلة التوفيق؛ فجاءها بأسنا بعد ذلك"؛ وقال الفراء - وحكاه الطبري -: إن الإهلاك هو مجيء البأس؛ ومجيء البأس هو الإهلاك؛ فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة؛ وقيل: إن الفاء لترتيب القول فقط؛ فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها؛ ثم قال: "فكان من أمرها مجيء البأس".

و"بياتا"؛ نصب على المصدر؛ في موضع الحال؛ و"قائلون"؛ من "القائلة"؛ وإنما خص وقتي الدعة؛ والسكون؛ لأن مجيء العذاب فيهما أفظع؛ وأهول؛ لما فيهما من البغت؛ والفجأة؛ و"أو"؛ في هذا الموضع كما تقول: "الناس في فلان صنفان؛ حامد أو ذام"؛ فكأنه قال: "جاءهم بأسنا فرقتين؛ بائتين؛ أو قائلين"؛ وهذا هو الذي يسمى اللف؛ وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة؛ و"البأس": العذاب؛ وقيل: المراد: "أو وهم قائلون"؛ فكره اجتماع حرفي العطف؛ فحذفت الواو؛ وهذا تكلف؛ لأن معنى اللف باق.

وقوله تعالى فما كان دعواهم ؛ الآية؛ تبين في هذه الآية غاية البيان أن المراد في [ ص: 513 ] الآية قبلها أهل القرى؛ والدعوى في كلام العرب لمعنيين: أحدهما: الدعاء؛ قال الخليل: تقول: "اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين"؛ ومنه قوله - عز وجل -: فما زالت تلك دعواهم ؛ ومنه قول الشاعر:


وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي ... بدعواك من مذل بها فيهون



والثاني: الادعاء؛ فقال الطبري : هي في هذا الموضع بمعنى: "الدعاء".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويتوجه أن يكون أيضا بمعنى "الادعاء"؛ لأن من ناله مكروه؛ أو حزبه حادث؛ فمن شأنه أن يدعو؛ كما ذهب إليه المفسرون في فعل هؤلاء المذكورين في هذه الآية؛ ومن شأنه أيضا أن يدعي معاذير؛ وأشياء؛ تحسن حاله؛ وتقيم حجته في زعمه؛ فيتجه أن يكون هؤلاء بحال من يدعي معاذير؛ ونحوها؛ فأخبر الله تعالى عنهم أنهم لم تكن لهم دعوى؛ ثم استثنى من غير الأول؛ كأنه قال: "لم يكن دعاء - أو ادعاء - إلا الإقرار؛ والاعتراف"؛ أي: هذا كان بدل الدعاء؛ أو الادعاء.

وتحتمل الآية أن يكون المعنى: "فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف"؛ ونحو من الآية قول الشاعر:


وقد شهدت قيس فما كان نصرها ...     قتيبة إلا عضها بالأباهم



واعترافهم وقولهم: إنا كنا ظالمين؛ هو في المدة بين ظهور العذاب؛ إلى إتيانه على أنفسهم؛ وفي ذلك مهلة؛ بحسب نوع العذاب؛ تتسع لهذه المقالة؛ وغيرها؛ وروى ابن مسعود عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: "ما هلك قوم حتى يعذروا من [ ص: 514 ] أنفسهم"؛ وفسر عبد الملك بن ميسرة هذا الحديث بهذه الآية؛ و"دعواهم"؛ خبر "كان"؛ واسمها "إلا أن قالوا"؛ وقيل بالعكس.

وقوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ؛ الآية؛ وعيد من الله - عز وجل - لجميع العالم؛ أخبر أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه تعالى ؛ وعن جميع أعمالهم؛ ويسأل النبيين - عليهم السلام - عما بلغوا.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد نفي السؤال في آيات؛ وذلك هو سؤال الاستفهام الحقيقي؛ وقد أثبت في آيات كهذه الآية؛ وهذا هو سؤال التقرير؛ فإن الله تعالى قد أحاط علما بكل ذلك قبل السؤال؛ فأما الأنبياء - عليهم السلام -؛ والمؤمنون؛ فيعقبهم جوابهم رحمة؛ وكرامة؛ وأما الكفار؛ ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة؛ فيعقبهم جوابهم عذابا وتوبيخا؛ فمن أنكر منهم قص تعالى عليه بعلم؛ وقرأ ابن مسعود : "فلنسألن الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ولنسألن المرسلين".

وقوله تعالى "فلنقصن"؛ أي: "فلنسردن عليهم أعمالهم؛ قصة قصة"؛ و"بعلم"؛ أي: بحقيقة ويقين؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يوضع الكتاب يوم القيامة؛ فيتكلم بما كانوا يعملون.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: يشبه أن يكون الكلام هنا استعارة؛ إذ كل شيء فيه مقيد.

"وما كنا غائبين"؛ أي: "ما كنا من لا يعلم جميع تصرفاتهم"؛ كالغائب عن الشيء؛ الذي لا يعرف له حالا.

التالي السابق


الخدمات العلمية