الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون

هذه حكاية ما يقول الله تعالى لهم يوم القيامة؛ بوساطة ملائكة العذاب؛ وعبر عن "يقول"؛ بـ "قال"؛ لتحقق وقوع ذلك؛ وصدق القصة؛ وهذا كثير.

وقوله تعالى "في أمم"؛ متعلق بـ "ادخلوا"؛ ويحتمل أن يتعلق بمحذوف؛ تقديره: "كائنين - أو: "ثابتين" - في أمم..."؛ فيكون في موضع الحال من الضمير في "ادخلوا"؛ [ ص: 560 ] وقيل: "في"؛ بمعنى "مع"؛ وقيل: هي على بابها؛ وهو أصوب؛ وقوله: "قد خلت"؛ صفة لـ "أمم"؛ وقوله: "في النار"؛ يصح تعلقه بـ "ادخلوا"؛ ويصح أن يتعلق بـ "أمم"؛ أي: في أمم ثابتة؛ أو مستقرة؛ ويصح تعلقه بالذكر الذي في "خلت"؛ ومعنى "قد خلت"؛ على هذا التعلق؛ أي: "قد تقدمت؛ ومضى عليها الزمن؛ وعرفها فيما تطاول من الآباد"؛ وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت؛ إذ أصلها فيمن مات من الناس؛ أي: "صاروا إلى خلاء من الأرض"؛ وعلى التعليقين الأولين لقوله: "في النار"؛ فإنما "خلت"؛ حكاية عن حال الدنيا؛ أي: "ادخلوا في النار؛ في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا؛ الكافرة"؛ وقدم ذكر "الجن"؛ لأنهم أعرق في الكفر؛ وإبليس أصل الضلال؛ والإغواء؛ وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار؛ والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة؛ لأنهم عقلاء؛ مكلفون؛ مبعوث إليهم؛ آمنوا؛ وصدقوا؛ وقد بوب البخاري - رحمه الله -: "باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم"؛ وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون ترابا؛ كالبهائم؛ وذكر في ذلك حديثا مجهولا؛ وما أراه يصح؛ والله تعالى أعلم.

والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة؛ قال السدي : يتلاعن آخرها؛ وأولها؛ "اداركوا"؛ معناه: تلاحقوا؛ ووزنه "تفاعلوا"؛ أصله: "تداركوا"؛ أدغم؛ فجلبت ألف الوصل؛ وقرأ أبو عمرو "اداركوا"؛ بقطع ألف الوصل؛ قال أبو الفتح: هذا مشكل؛ ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالا؛ فذلك إنما يجيء شاذا في ضرورة الشعر؛ وقرأ مجاهد بقطع الألف؛ وسكون الدال "ادركوا"؛ بفتح الراء؛ وبحذف الألف بعد الدال؛ بمعنى: "أدرك بعضهم بعضا"؛ وقرأحميد: "أدركوا"؛ بضم الهمزة؛ وكسر الراء؛ أي: "أدخلوا في إدراكها"؛ وقال مكي ؛ في قراءة مجاهد : إنها "ادركوا"؛ بشد الدال؛ المفتوحة؛ وفتح الراء؛ قال: وأصله: "إدتركوا"؛ ووزنها "افتعلوا"؛ وقرأ ابن مسعود ؛ والأعمش : "تداركوا"؛ ورويت عن أبي عمرو ؛ وقرأ الجمهور: "حتى إذا اداركوا"؛ [وقرئ] بحذف ألف "إذا"؛ لالتقاء الساكنين.

[ ص: 561 ] وقوله تعالى قالت أخراهم لأولاهم ؛ معناه: "قالت الأمة الأخيرة؛ التي وجدت ضلالات مقررة؛ وسننا كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك؛ وافترت على الله تعالى ؛ وسلكت سبيل الضلال ابتداء: ربنا هؤلاء طرقوا طرق الضلال وسببوا ضلالنا؛ فآتهم عذابا مضاعفا - أي: ثانيا؛ زائدا على عذابنا - إذ هم كافرون؛ ومسببون لكفرنا"؛ وتقول: "ضاعفت كذا"؛ إذا جعلته مثل الأول؛ واللام في قوله: "لأولاهم"؛ كأنها لام سبب؛ إذ القول إنما هو للرب تعالى ؛ ثم قال - عز وجل - مخبرا لهم: "لكل ضعف"؛ أي: "العذاب مشدد على الأول والآخر"؛ ولكن لا تعلمون ؛ أي: المقادير؛ وصور التضعيف؛ وهذا رد لكلام هؤلاء؛ إذ ليس لهم كرامة فيظهر إسعافهم.

وأما المعنى الذي دعوا فيه؛ فظاهر حديث النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أنه حاصل؛ وأن كل من سن كفرا؛ أو معصية؛ فعليه كفل من جهة كل من عمل بذلك بعده؛ ومنه حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ قال: "ما من داع دعا إلى ضلالة إلا كان عليه وزره ووزر من اتبعه؛ لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا..."؛ الحديث؛ ذكره الليث بن سعد ؛ من آخر الجزء الرابع من حديثه؛ وذكره مالك في الموطأ غير مسند؛ موصل؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ما تقتل نسمة ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"؛ أما إن هؤلاء عينوا في دعائهم الضعف؛ وقد يكون الكفل أقل؛ أو أكثر؛ وعن ابن مسعود أن الضعف؛ ههنا: الأفاعي والحيات.

وقرأ جميع السبعة؛ غير عاصم ؛ في رواية أبي بكر - رضي الله عنه -: "ولكن لا تعلمون"؛ بالتاء؛ ويحتمل ذلك أن يكون مخاطبة لهذه الأمة الأخيرة؛ متصلة بقوله - تبارك وتعالى - لهم: "لكل ضعف"؛ ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد - عليه الصلاة والسلام -؛ وأمته؛ وقرأ عاصم وحده؛ في رواية أبي بكر - رضي الله عنه -: "ولكن لا يعلمون"؛ وروى حفص عن عاصم [ ص: 562 ] مثل قراءة الجماعة؛ وهذه مخاطبة لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ وإخبار عن الأمة الأخيرة التي طلبت أن يشدد العذاب على أولاها؛ ويحتمل أن يكون خبرا عن الطائفتين؛ حملا على لفظة "كل"؛ أي: "لا يعلم أحد منهم قدر ما أعد لهم من عذاب الله تعالى ".

وقوله - عز وجل -: وقالت أولاهم لأخراهم ؛ الآية؛ المعنى: "وقالت الأمة الأولى المبتدعة؛ للأمة الأخيرة المتبعة: أنتم لا فضل لكم علينا؛ ولم تزدجروا حين جاءتكم النذر؛ والرسل؛ بل دمتم في كفركم؛ وتركتم النظر؛ واستوت حالنا وحالكم؛ فذوقوا العذاب باجترامكم"؛ هذا قول السدي ؛ وأبي مجلز؛ وغيرهما؛ فقوله "فذوقوا" - على هذا - من كلام الأمة المتقدمة للأمة المتأخرة؛ وقيل: قوله: "فذوقوا"؛ هو من كلام الله - عز وجل - لجميعهم؛ وقال مجاهد : ومعنى قوله - تبارك وتعالى -: "من فضل"؛ أي من التخفيف.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: معناه أنه لما قال الله - عز وجل -: "لكل ضعف"؛ قال الأولون للآخرين: لم تبلغوا أملا في أن يكون عذابكم أخف من عذابنا؛ ولا فضلتم بالإسعاف؛ والنص عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية