الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين

اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله: "كما" حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان; وأنا أبدأ بهما:

قال الفراء : التقدير: "امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا، كما أخرجك ربك"، هذا نص قوله في "هداية مكي "، والعبارة بقوله: "امض لأمرك ونفل من شئت" غير محررة، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال: إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم فكانت في ذلك الخيرة، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم هنا للخروج، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله: "يجادلونك" كلاما مستأنفا يراد به الكفار، أي: [ ص: 138 ] يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها، كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا الذي ذكرت من أن "يجادلونك" في الكفار منصوص.

والقول الثاني، قال مجاهد والكسائي وغيرهما: المعنى في هذه الآية: كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والتقدير -على هذا التأويل-: يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك، فالمجادلة -على هذا التأويل- بمثابة الكراهية، وكذلك وقع التشبيه في المعنى، وقائل هذه المقالة يقول: إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول: إن المجادلين هم المشركون، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ.

وقال الأخفش : الكاف نعت لـ "حقا" والتقدير: "هم المؤمنون حقا كما أخرجك".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق.

وقيل: الكاف في موضع رفع. والتقدير: "كما أخرجك ربك فاتقوا الله"، كأنه ابتداء وخبر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر.

وقال أبو عبيدة : هو قسم، أي: "لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك". بتقدير: والذي أخرجك، فالكاف في معنى الواو و (ما) بمعنى الذي.

[ ص: 139 ] وقال الزجاج : الكاف في موضع نصب، والتقدير: "الأنفال ثابتة لك ثباتا كما أخرجك ربك".

وقيل: الكاف في موضع رفع. والتقدير: "لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حق كما أخرجك".

وقيل: المعنى: "وأصلحوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك"، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف. وقيل التقدير: "قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك"، وهذا نحو أول قول ذكرته.

وقال عكرمة : التقدير: "وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك"، أي:الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيرا لكم.

وقوله تعالى: من بيتك يريد: من المدينة يثرب، قاله جمهور المفسرين. وقال ابن بكير: المعنى: كما أخرجك من مكة وقت الهجرة، وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "في الحق بعد ما بين" بضم الباء من غير تاء. والضمير في قوله: ( يجادلونك ) قيل: هو للمؤمنين، وقيل: للمشركين، فمن قال: "للمؤمنين" جعل الحق قتال مشركي قريش، ومن قال "للمشركين" جعل الحق شريعة الإسلام. وقوله: إلى الموت أي: في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون، وفي دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون. وقوله: وهم ينظرون حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله.

وقوله تعالى: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم الآية. في هذه الآية قصص حسن أنا أختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن هشام ، واختصاره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه -وقيل: أوحي إليه- أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها قال لأصحابه: إن عير قريش قد عنت لكم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، قال: فابتعث ممن معه من خف، وثقل قوم [ ص: 140 ] وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر، ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا فلم يكثر استعدادهم، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستنفر أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم أوحى الله إليه وحيا غير متلو يعده إحدى الطائفتين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ طريق الساحل وأبعد وفات، ولم يبق إلا لقاء أهل مكة، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا: عيرنا قد نجت فلننصرف، فحرش أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة، وقال بعض المؤمنين: نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو بواد يسمى ذفران، وقال: أشيروا علي أيها الناس، فقام أبو بكر رضي الله عنه وتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة، فقام عمر رضي الله عنه بمثل ذلك، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة، فتكلم المقداد الكندي فقال: لا نقول لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون، والله لو أردت بنا برك الغماد -(قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهي مدينة الحبشة)- لقاتلنا معك من دونها، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا علي أيها الناس، فكلمه سعد بن معاذ -وقيل: سعد بن عبادة -.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

"ويمكن أنهما جميعا تكلما في ذلك اليوم"، فقال: يا رسول الله، كأنك تريدنا معشر الأنصار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجل، فقال: إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "امضوا على بركة الله، فكأني أنظر إلى مصارع القوم"، فالتقوا وكانت وقعة بدر. [ ص: 141 ] وقرأ مسلمة بن محارب: "وإذ يعدكم" بجزم الدال، قال أبو الفتح: ذلك لتوالي الحركات، وقرأ ابن محيصن: "وإذ يعدكم الله احدى الطائفتين" بوصل الألف من "إحدى" وصلة الهاء بالحاء.

و"الشوكة" عبارة عن السلاح والحدة، ومنه قول الأعور: "إن العرفج قد أدبى". وقرأ أبو عمرو -فيما حكى أبو حاتم - "الشوكة تكون" بإدغام التاء في التاء. ومعنى الآية: وتودون العير وتأبون قتال الكفار.

وقوله: ويريد الله الآية، المعنى: ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع -بخلاف عنهم- (بكلمته) على الإفراد الذي يراد به الجمع، والمعنى في قوله: بكلماته إما أن يريد: بأوامره للملائكة والنصرة لجميع ما يظهر الإسلام، وإما أن يريد: بكلماته التي سبقت في الأزل، والمعنى قريب.

والدابر: الذي يدبر القوم، أي: يأتي في آخرهم، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية