الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

[ ص: 289 ] تضمنت هذه الآية قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى حتى يقتلوا أو يؤدوا الجزية، قال مجاهد : وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو الروم، ومشى نحو تبوك، ومن جعل أهل الكتاب مشركين فهذه الآية عنده ناسخة بما فيها من أخذ الجزية لقوله تعالى: فاقتلوا المشركين ، ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع ما لهم وفي الله عز وجل وفي البعث من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذ تلقوها من غير طريقها، وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة، لأنهم تشعبوا وقالوا: عزير ابن الله، والله ثالث ثلاثة، وغير ذلك، ولهم أيضا في البعث آراء كثيرة، كشراء منازل الجنة من الرهبان، وقول اليهود في النار: نكون فيها أياما بعدد، ونحو ذلك.

وأما قوله تعالى: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله فبين ونص على مخالفتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: ولا يدينون فمعناه: ولا يطيعون ويمتثلون، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين، والدين في اللغة لفظة مشتركة وهي هاهنا: الشريعة، وهي مثل قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام ، وأما قوله: من الذين أوتوا الكتاب فنص في بني إسرائيل وفي الروم، وأجمع الناس في ذلك، وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، فقال كثير من [ ص: 290 ] العلماء: معنى ذلك في أخذ الجزية منهم، وليسوا أهل الكتاب، فعلى هذا لم يتعد التشبيه إلى ذبائحهم ومناكحهم، وهذا هو الذي ذكره ابن حبيب في "الواضحة".

وقال بعض العلماء: معناه: سنوا بهم سنة أهل الكتاب إذ هم أهل كتاب، فعلى هذا يتجه التشبيه في ذبائحهم وغيرها، والأول هو قول مالك وجمهور أصحابه، وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت، وأما مجوس العرب فقال ابن وهب : لا تقبل منهم جزية ولا بد من القتال أو الإسلام، وقال سحنون، وابن القاسم ، وأشهب: تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها، وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستثن الله فيهم جزية، ولا بقي منهم على الأرض بشر، قال ابن حبيب : وإنما لهم القتال أو الإسلام، وهو قول أبو حنيفة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويوجد لابن القاسم أن الجزية تؤخذ منهم، وذلك أيضا في "التفريع" لابن الجلاب، وهو احتمال لا نص، وأما أهل الكتاب من العرب فذهب مالك رحمه الله إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وأشار إلى المنع من ذلك أبو حنيفة ، وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبائحهم، وقالت فرقة: لا تؤكل ذبائحهم وعلى هذا لا تؤخذ الجزية منهم، ومنع بعضهم الذبيحة مع إباحة أخذ الجزية منهم، وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم، وهو قول مالك في "المدونة"، وقال الشافعي ، وأبو ثور : "لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط" ومذهب مالك رحمه الله أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ، ولا تضرب على الصبيان والنساء والمجانين، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين، قال مالك في "الواضحة": "وأما إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا بعد ذلك فلا تسقط عنهم"، وأما رهبان الكنائس فتضرب عليهم، واختلف في الشيخ الفاني، ومن راعى أن علتها الإذلال [ ص: 291 ] أمضاها في الجميع، وقال النقاش : "العقوبة الشرعية تكون في الأموال والأبدان، فالجزية من عقوبات الأموال".

وأما قدرها فذهب رحمه الله وكثير من أهل العلم على ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الفضة، وفرض عمر رضي الله عنه ضيافة وأرزاقا وكسوة، قال مالك في "الواضحة": ويحط ذلك عنهم اليوم لما عليهم من اللوازم" فهذا أحد ما ذكر عن عمر ، وبه أخذ مالك ، قال سفيان الثوري : "رويت عن عمر ضرائب مختلفة".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأظن ذلك بحسب اجتهاده رضي الله عنه في يسرهم وعسرهم.

وقال الشافعي ، وغيره: قدر الجزية دينار على الرأس، ودليل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا بذلك، وأخذه جزية اليمن كذلك أو قيمته معافر، وهي ثياب، وقال كثير من أهل العلم: ليس لذلك في الشرع حد محدود، وإنما ذلك إلى اجتهاد الإمام في كل وقت، وبحسب قوم قوم، وهذا كله في العنوة، وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير، واختلف في المذهب في العبد الذي يعتقه الذمي أو المسلم، هل يلزمه جزية أم لا؟ وقال ابن القاسم : لا ينقص أحد من أربعة [ ص: 292 ] دنانير كان فقيرا أو غنيا، وقال أصبغ : يحط الفقير بقدر ما يرى من حاله، وقال ابن الماجشون: لا يؤخذ من الفقير شيء.

والجزية وزنها فعلة من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة، ومن هذا المعنى قول الشاعر:


يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى



وقوله تعالى: عن يد يحتمل تأويلات، منها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع رسول ليكون في ذلك إذلال له، ومنها أن يريد: عن نعمة منكم قبلهم في قبولها منهم وتأمينهم، واليد في اللغة: النعمة والصنع الجميل، ومنها أن يريد: عن قوة منكم عليهم وقهر لا تبقى لهم معه راية ولا معقل، واليد في كلام العرب: القوة، يقال: فلان ذو يد، ويقال: ليس لي بكذا وكذا يد، أي: قوة. ومنها أن يريد: أن ينقدوها ولا يؤخروها، كما تقول: بعته يدا بيد، ومنها أن يريد: عن استسلام منهم وانقياد، على نحو قولهم: "ألقى فلان بيده" إذا عجز واستسلم.

وقوله: وهم صاغرون لفظ يعم وجوها لا تنحصر لكثرتها، ذكر منها -عن عكرمة - أن يكون قابضها جالسا والدافع من أهل الذمة قائم، وهذا ونحوه داع إلى صغارهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية