الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون

قال الطبري : التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. وقالت فرقة: التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون منه، ويجوز أن يكون قوله: "ومن ثمرات" عطفا على "الأنعام"، أي: ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة، ويجوز أن يكون عطفا على "مما"، أي: ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات.

[ ص: 379 ] و"السكر": ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، وأراد "بالسكر" الخمر، و"بالرزق الحسن" جميع ما يشرب ويؤكل حلالا من هاتين الشجرتين، وقال بهذا القول ابن جبير ، وإبراهيم، والشعبي ، وأبو رزين، وقال الحسن بن أبي الحسن: ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر، وقال الشعبي ، ومجاهد : السكر: المايغ من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ، و الرزق الحسن: العنب والتمر، قال الطبري : والسكر أيضا في كلام العرب : ما يطعم، ورجح الطبري هذا القول. ولا يدخل الخمر فيه، ولا نسخ من الآية شيء، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر: إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر، وفي هذه المقالة درك; لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "حرمت الخمر بعينها، والسكر من غيرها"، هكذا روي، والرواية الصحيحة بفتح السين والكاف، أي: جميع ما يسكر منه حرم على حد تحريم الخمر قليله وكثيره، ورواه العراقيون و"السكر" بضم السين وسكون الكاف، وهو مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فقليله حلال، وباقي الآية بين.

وقوله تعالى: وأوحى ربك إلى النحل الآية. الوحي في كلام العرب إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك، ومنه وحي الرؤيا، ومنه وحي الإلهام وهو الذي ها هنا باتفاق من المتأولين، والوحي أيضا بمعنى الأمر، كما قال تعالى:بأن ربك أوحى لها ، وقرأ يحيى بن وثاب : "إلى النخل" بفتح الحاء، و"أن" في قوله: أن اتخذي مفسرة. وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة: إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن [ ص: 380 ] آدم من الأجباح والحيطان ونحوها. "وعرش" معناه : هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من اتفاق الأغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذي صيغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومن هذا هي لفظة العرش، ويقال: عرش يعرش ويعرش بكسر الراء وضمها، قرأ ابن عامر بالضم، وسائرهم بالكسر، واختلف عن عاصم ، وجمهور الناس على الكسر، وقرأ بالضم أبو عبد الرحمن، وعبيد بن نضلة، وقال ابن زيد في قوله: "يعرشون" قال: الكروم، وقال الطبري : "ومما يعرشون" يعني: ما يبنون من السقوف.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا منهما تفسير غير متقن.

وقوله تعالى: ثم كلي من كل الثمرات الآية. المعنى: ثم ألهمها أن كلي، فعطف "كلي" على "اتخذي"، و"من" للتبعيض، أي: كلي جزءا أو شيئا من كل الثمرات، وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار. و "السبل": الطرق، وهي مسالكها في الطيران وغيره، وأضافها إلى الرب من حيث هي ملكه وخلقه، أي: التي يسر لك ربك. وقوله: "ذللا" يحتمل أن يكون حالا من "النحل"، أي: مطيعة منقادة لما يسرت له، قاله قتادة ، وقال ابن زيد : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون، وهي تتبعهم، وقرأ: أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا إلى قوله: يأكلون ، ويحتمل أن يكون حالا من "السبل"، أي: مسهلة مستقيمة، قال مجاهد : لا يتوعر عليها سبيل تسلكه.

ثم ذكر تبارك وتعالى -على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة- أمر العسل في قوله: يخرج من بطونها ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: "أشرف لباس ابن [ ص: 381 ] آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة". فظاهر هذا أنه من غير الفم، واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي، وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي، ومن هذا المعنى قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم: "جرست نحله العرفط"، حين شبهت رائحته برائحة المغافير.

وقوله: فيه شفاء للناس ، الضمير للعسل، قاله الجمهور، ولا يقتضي العموم في كل علة، وفي كل إنسان، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض، وعلى حال دون حال، ففي الآية إخبار منبه على أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للأدوية والأشربة والمعاجن، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يشكو شيئا إلا تداوى بالعسل، حتى إنه كان يدهن به الدمل والقرصة ويقرأ: فيه شفاء للناس .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم، وقال مجاهد : الضمير للقرآن، أي: فيه شفاء، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها أهل البيت من بني هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وأبهت الآخر، وظهرت سخافة قوله، وباقي الآية بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية