الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا

هذا الترجي بـ "عسى" يحتمل أن يريد به: في الدنيا، ويحتمل أن يريد: في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعا، وأذهب مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية هذا المخاطب، وأشد إيلاما لنفسه.

و "الحسبان": العذاب كالبرد والصر ونحوه، واحد الحسبان: حسبانة، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وهي سهام ترمى دفعة بآلة لذلك. و "الصعيد": وجه الأرض، و "الزلق": الذي لا يثبت فيه قدم، يعني أنه تذهب أشجاره ونباته، ويبقى أرضا قد ذهبت منافعها حتى منفعة المشي، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيها قدم.

[ ص: 611 ] و "الغور" مصدر يوصف به الماء المفرد والمياه الكثيرة، كقولك: رجل عدل وامرأة عدل ونحوه، ومعناه: ذاهبا في الأرض لا يستطاع تناوله، وقرأت فرقة: "غورا" بضم الغين، وقرأت فرقة: "غؤرا" بضم الغين وهمز الواو، و "غور" مثل "نوح" يوصف به الواحد والجمع، المذكر والمؤنث، ومنه قول الشاعر:


تظل جيادها نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا



وهذا كثير، وباقي الآية بين.

وقوله تعالى: وأحيط بثمره الآية. هذا خبر من الله تعالى عن إحاطة العذاب بحال هذا الممثل به، وقد تقدم القول في الثمر، غير أن الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد. و يقلب كفيه يريد: يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهف المتأسف على فائت أو خسارة أو نحوها، ومن عبر بـ "يصفق" فلم يتقن. وقوله: خاوية على عروشها يريد أن السقوف وقعت، وهي العروش، ثم تهدمت الحيطان عليها، فهي خاوية والحيطان على العروش. ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، قال بعض المفسرين: هي حكاية عن قول الكافر هذه المقالة في الآخرة، ويحتمل أن يريد أنه قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة، ويكون فيها زجر للكفرة من قريش أو غيرهم; لئلا تجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو عمرو، والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة : "ولم تكن" بالتاء على لفظ الفئة، وقرأ حمزة ، والكسائي ، ومجاهد ، وابن وثاب : "ولم يكن" بالياء على المعنى. و"الفئة": الجماعة التي يلجأ إلى نصرها، قال مجاهد : هي العشيرة.

[ ص: 612 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهي عندي من: فاء يفيء، وزنها فعلة "فيئة" حذفت العين تخفيفا، وقد قال أبو علي وغيره: هي من فأوت وليست من فاء، وهذا الذي قالوه أدخل في التصريف، والأول أحكم في المعنى. وقرأ ابن أبي عبلة : "فئة تنصره".

وقوله تعالى: "هنالك" يحتمل أن يكون ظرفا لقوله: "منتصرا"، ويحتمل أن تكون "الولاية" مبتدأ و"هنالك" خبره، وقرأ حمزة، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب : "الولاية" بكسر الواو، وهي بمعنى الرياسة والزعامة ونحوه، وقرأ الباقون: "الولاية" بفتح الواو، وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه، ويحكى عن أبي عمرو، والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن; لأن (فعالة) إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلدا، وليس هنا تولي أمر.

وقرأ أبو عمرو، والكسائي : "الحق" بالرفع على جهة النعت ل "الولاية"، وقرأ الباقون: "الحق" بالخفض على النعت لله عز وجل، وقرأ أبو حيوة : "لله الحق" بالنصب. وقرأ الجمهور: "عقبا" بضم العين والقاف، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والحسن : "عقبا" بضم العين وسكون القاف وتنوين الباء، وقرأ عاصم أيضا: "عقبى" بياء التأنيث. والعقب والعقب بمعنى المعاقبة.

التالي السابق


الخدمات العلمية