الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب

                                                                                                                                                                                                                                      قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه جواب قسم محذوف قصد به عليه الصلاة والسلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه، وتهجين طمعه في نعجة من ليس له غيرها مع أن له قطيعا منها، ولعله عليه الصلاة والسلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادعاه عليه، أو بناه على تقدير صدق المدعي . والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله، وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والضم . وإن كثيرا من الخلطاء أي الشركاء الذين خلطوا أموالهم ليبغي ليتعدى . وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها، وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة . بعضهم على بعض غير مراع لحق الصحبة والشركة . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان وقليل ما هم أي : وهم قليل . و "ما" مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم، والجملة اعتراض . وظن داود أنما فتناه الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة، أي : علم بما جرى في مجلس الحكومة، وقيل : لما قضى بينهما ما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم عليه الصلاة والسلام أنه تعالى ابتلاه، وليس المعنى على تخصيص الفتنة به عليه الصلاة والسلام دون غيره، بتوجيه القصر المستفاد من كلمة "إنما" إلى المفعول بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الاستعمال الشائع الوارد على توجيه القصر إلى متعلقات الفعل وقيوده، باعتبار النفي فيه والإثبات فيها، كما في مثل قولك : إنما ضربت زيدا، وإنما ضربته تأديبا، بل على تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام بالفتنة بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغايره من الأفعال لكن لا باعتبار النفي والإثبات معا في خصوصية الفعل فإنه غير ممكن قطعا، بل باعتبار النفي فيما فيه من معنى مطلق الفعل، واعتبار الإثبات فيما يقارنه من المعنى المخصوص فإن كل فعل من الأفعال المخصوصة ينحل [ ص: 222 ] عند التحقيق إلى معنى مطلق هو مدلول لفظ الفعل، وإلى معنى مخصوص يقارنه ويقيده، وهو أثره في الحقيقة . فإن معنى نصر مثلا فعل النصر يرشدك إلى ذلك قولهم معنى فلان يعطي ويمنع يفعل الإعطاء والمنع، فمورد القصر في الحقيقة ما يتعلق بالفعل باعتبار النفي فيه والإثبات فيما يتعلق به، فالمعنى وعلم داود عليه السلام أنما فعلنا به الفتنة لا غير . قيل : ابتليناه بامرأة أوريا، وقيل : امتحناه بتلك الحكومة، هل يتنبه بها لما قصد منها ؟ وإيثار طريق التمثيل; لأنه أبلغ في التوبيخ، فإن التأمل فيه إذا أداه إلى الشعور بما هو الغرض كان أوقع في نفسه، وأعظم تأثيرا في قلبه، وأدعى إلى التنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاة حرمته عليه الصلاة والسلام بترك المجاهرة، والإشعار بأنه أمر يستحيي من التصريح به . وتصويره التحاكم لإلجائه عليه الصلاة والسلام إلى التصريح بنسبة نفسه إلى الظلم، وتنبيهه عليه الصلاة والسلام على أن أوريا بصدد الخصام . فاستغفر ربه إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب وخر راكعا أي : ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه . أو خر للسجود راكعا، أي : مصليا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار . وأناب أي : رجع إلى الله تعالى بالتوبة . وأصل القصة أن داود عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا، فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحي أن يرده ففعل فتزوجها . وهي أم سليمان عليه السلام . وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين أمته، غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وقد كان الأنصار في صدر الإسلام يواسون المهاجرين بمثل ذلك من غير نكير، خلا أنه عليه الصلاة والسلام لعظم منزلته، وارتفاع مرتبته، وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته، ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه، بل كان يجب عليه أن يغالب هواه، ويقهر نفسه، ويصبر على ما امتحن به . وقيل : لم يكن أوريا تزوجها، بل كان خطبها، ثم خطبها داود عليه السلام، فآثره عليه السلام أهلها، فكان ذنبه عليه الصلاة والسلام أن خطب على خطبة أخيه المسلم هذا . وأما ما يذكر من أنه عليه الصلاة والسلام دخل ذات يوم محرابه، وأغلق بابه، وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت، فامتد إليها فطارت فوقعت في كوة، فتبعها فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها، فغطى بدنها . وهي امرأة أوريا . وهو من غزاة البلقاء، فكتب إلى أيوب بن صوريا، وهو صاحب بعث البلقاء أن ابعث بعث أوريا، وقدمه على التابوت . وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يديه، أو يستشهد، ففتح الله تعالى على يده وسلم، فأمر برده مرة أخرى، وثالثة حتى قتل، وأتاه خبر قتله، فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته . فإفك مبتدع مكروه، ومكر مخترع بئسما مكروه تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويل لمن ابتدعه وأشاعه، وتبا لمن اخترعه وأذاعه . ولذلك قال علي رضي الله عنه من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين . وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم هذا، وقد قيل : إن قوما قصدوا أن يقتلوه عليه الصلاة والسلام، فتسوروا المحراب، ودخلوا عليه، فوجدوا عنده أقواما، فتصنعوا بهذا التحاكم . فعلم عليه الصلاة والسلام غرضهم، فهم بأن ينتقم منهم، فظن أن ذلك ابتلاء له من الله عز وجل، فاستغفر ربه مما هم به وأناب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية