الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قفينا على آثارهم برسلنا أي: ثم أرسلنا بعدهم رسلنا. وقفينا بعيسى ابن مريم أي: أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم عليه السلام والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم أو من عاصرهم من الرسل لا للذرية فإن الرسل المقفى بهم من الذرية. وآتيناه الإنجيل وقرئ بفتح الهمزة فإنه أعجمي لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب. وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة وقرئ "رآفة" على فعالة. ورحمة أي: وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم ، ونحوه في شأن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام رحماء بينهم. ورهبانية منصوب إما بفعل مضمر يفسره الظاهر أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها وإما بالعطف على ما قبلها و"ابتدعوها" صفة لها أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم أي: ووفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها وهي المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس ومعناها: الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف، فعلان من رهب كخشيان من خشي، وقرئ بضم الراء كأنها نسبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان، وسبب ابتداعهم إياها أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام فقاتلوهم ثلاث مرات فقاتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل فخافوا أن يفتتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية في قلل الجبال فارين بدينهم مخلصين أنفسهم للعبادة، وقوله تعالى: ما كتبناها عليهم جملة مستأنفة، وقيل: صفة أخرى لـ"رهبانية" والنفي على الوجه الأول متوجه إلى أصل الفعل، وقوله تعالى: إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع أي: ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فذمهم حينئذ بقوله تعالى: فما رعوها حق رعايتها من حيث أن النذر عهد مع الله لا يحل نكثه لا سيما إذا قصد به رضاه تعالى وعلى الوجه الثاني متوجه إلى قيده لا إلى نفسه والاستثناء متصل من أعم العلل أي: ما كتبناها عليهم بأن وفقناهم لابتداعها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعاها كلهم بل بعضهم. فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رعاية رهبانيتهم لا مجرد رعايتها فإنها بعد البعثة لغو محض [ ص: 214 ] وكفر بحت وأنى لها استتباع الأجر. أجرهم أي: ما يخص بهم من الأجر. وكثير منهم فاسقون خارجون عن حد الاتباع وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية