الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير

                                                                                                                                                                                                                                        (15) يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه:

                                                                                                                                                                                                                                        فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.

                                                                                                                                                                                                                                        فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها ، لما استعدوا لأي عمل كان.

                                                                                                                                                                                                                                        فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.

                                                                                                                                                                                                                                        فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.

                                                                                                                                                                                                                                        فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.

                                                                                                                                                                                                                                        فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.

                                                                                                                                                                                                                                        فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا حري بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.

                                                                                                                                                                                                                                        والله هو الغني الحميد أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها صفات كمال، ونعوت جلال.

                                                                                                                                                                                                                                        ومن غناه تعالى، أنه أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه الغني في حمده .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1434 ] (16) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد يحتمل أن المراد: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بغيركم من الناس، أطوع لله منكم، ويكون في هذا تهديد لهم بالهلاك والإبادة، وأن مشيئته غير قاصرة عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                        ويحتمل أن المراد بذلك، إثبات البعث والنشور، وأن مشيئة الله تعالى نافذة في كل شيء، وفي إعادتكم بعد موتكم خلقا جديدا، ولكن لذلك الوقت أجل قدره الله، لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

                                                                                                                                                                                                                                        (17) وما ذلك على الله بعزيز أي: بممتنع، ولا معجز له.

                                                                                                                                                                                                                                        (18) ويدل على المعنى الأخير، ما ذكره بعده في قوله: ولا تزر وازرة وزر أخرى أي: في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله، ولا يحمل أحد ذنب أحد. وإن تدع مثقلة أي: نفس مثقلة بالخطايا والذنوب، تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى فإنه لا يحمل عن قريب، فليست حال الآخرة بمنزلة حال الدنيا، يساعد الحميم حميمه، والصديق صديقه، بل يوم القيامة، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد، ولو على والديه وأقاربه.

                                                                                                                                                                                                                                        إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة أي: هؤلاء الذين يقبلون النذارة وينتفعون بها، أهل الخشية لله بالغيب، الذين يخشونه في حال السر والعلانية، والمشهد والمغيب، وأهل إقامة الصلاة، بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها، لأن الخشية لله تستدعي من العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب، والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب، والصلاة تدعو إلى الخير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

                                                                                                                                                                                                                                        ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه أي: ومن زكى نفسه بالتنقي من العيوب، كالرياء والكبر، والكذب والغش، والمكر والخداع والنفاق، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة، وتحلى بالأخلاق الجميلة، من الصدق، والإخلاص، والتواضع، ولين الجانب، والنصح للعباد، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق، فإن تزكيته يعود نفعها إليه، ويصل مقصودها إليه، ليس يضيع من عمله شيء.

                                                                                                                                                                                                                                        وإلى الله المصير فيجازي الخلائق على ما أسلفوه، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1435 ]

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية