الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون

                                                                                                                                                                                                                                        (50-59) لما ذكر تعالى نعيمهم، وتمام سرورهم، بالمآكل والمشارب، والأزواج الحسان، والمجالس الحسنة، ذكر تذاكرهم فيما بينهم، ومطارحتهم للأحاديث عن الأمور الماضية، وأنهم ما زالوا في المحادثة والتساؤل، حتى أفضى ذلك بهم إلى أن قال قائل منهم: إني كان لي قرين في الدنيا، ينكر البعث، ويلومني على تصديقي به ويقول لي: أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون أي: مجازون بأعمالنا؟ أي: كيف تصدق بهذا الأمر البعيد، الذي في غاية الاستغراب، وهو أننا إذا تمزقنا فصرنا ترابا وعظاما أننا نبعث ونعاد، ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا؟ أي: يقول صاحب الجنة لإخوانه: هذه قصتي، وهذا خبري أنا وقريني، ما زلت أنا مؤمنا مصدقا، وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث حتى متنا، ثم بعثنا فوصلت أنا إلى ما ترون من النعيم الذي أخبرتنا به الرسل، وهو لا شك أنه قد وصل إلى العذاب.

                                                                                                                                                                                                                                        فهل أنتم مطلعون لننظر إليه فنزداد غبطة وسرورا بما نحن فيه، ويكون ذلك رأي عين؟ والظاهر من حال أهل الجنة، وسرور بعضهم [ ص: 1471 ] ببعض، وموافقة بعضهم بعضا، أنهم أجابوه لما قال، وذهبوا تبعا له للاطلاع على قرينه. فاطلع فرأى قرينه في سواء الجحيم أي: في وسط العذاب وغمراته، والعذاب قد أحاط به. فقال له لائما على حاله، وشاكرا لله على نعمته أن نجاه من كيده: تالله إن كدت لتردين أي: تهلكني بسبب ما أدخلت علي من الشبه بزعمك. ولولا نعمة ربي على أن ثبتني على الإسلام لكنت من المحضرين في العذاب معك.

                                                                                                                                                                                                                                        أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين أي: يقوله المؤمن، مبتهجا بنعمة الله على أهل الجنة بالخلود الدائم والسلامة من العذاب؛ استفهام بمعنى الإثبات والتقرير. وقوله: فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وحذف المعمول، والمقام مقام لذة وسرور، فدل ذلك على أنهم يتساءلون بكل ما يلتذذون بالتحدث به، والمسائل التي وقع فيها النزاع والإشكال.

                                                                                                                                                                                                                                        ومن المعلوم أن لذة أهل العلم بالتساؤل عن العلم، والبحث عنه فوق اللذات الجارية في أحاديث الدنيا، فلهم من هذا النوع النصيب الوافر، ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ما لا يمكن التعبير عنه.

                                                                                                                                                                                                                                        (60) فلما ذكر تعالى نعيم الجنة، ووصفه بهذه الأوصاف الجميلة، مدحه، وشوق العاملين، وحثهم على العمل فقال: إن هذا لهو الفوز العظيم الذي حصل لهم به كل خير، وكل ما تهوى النفوس وتشتهي، واندفع عنهم به كل محذور ومكروه، فهل فوز يطلب فوقه؟ أم هو غاية الغايات، ونهاية النهايات، حيث حل عليهم رضا رب الأرض والسماوات، وفرحوا بقربه، وتنعموا بمعرفته واستروا برؤيته، وطربوا لكلامه؟

                                                                                                                                                                                                                                        (61) لمثل هذا فليعمل العاملون فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس الأنفاس وأولى ما شمر إليه العارفون الأكياس، والحسرة كل الحسرة، أن يمضي على الحازم وقت من أوقاته، وهو غير مشتغل بالعمل الذي يقرب لهذه الدار، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية