الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون [ ص: 1474 ] ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين

                                                                                                                                                                                                                                        (83-84) أي: وإن من شيعة نوح عليه السلام، ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة، ودعوة الخلق إلى الله، وإجابة الدعاء، إبراهيم الخليل عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                        إذ جاء ربه بقلب سليم من الشرك والشبه، والشهوات المانعة من تصور الحق، والعمل به، وإذا كان قلب العبد سليما، سلم من كل شر، وحصل له كل خير.

                                                                                                                                                                                                                                        (85-87) ومن سلامته أنه سليم من غش الخلق وحسدهم، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق، ولهذا نصح الخلق في الله، وبدأ بأبيه وقومه فقال: إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون هذا استفهام على وجه الإنكار، وإلزام لهم بالحجة.

                                                                                                                                                                                                                                        أإفكا آلهة دون الله تريدون أي: أتعبدون من دونه آلهة كذبا، ليست بآلهة، ولا تصلح للعبادة، فما ظنكم برب العالمين ، أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب على الإقامة على شركهم، وما الذي ظننتم برب العالمين، من النقص حتى جعلتم له أندادا وشركاء.

                                                                                                                                                                                                                                        (88-93) فأراد عليه السلام، أن يكسر أصنامهم، ويتمكن من ذلك، فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم، لما ذهبوا إلى عيد من أعيادهم، فخرج معهم، [ ص: 1475 ] فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم في الحديث الصحيح: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله عن زوجته :إنها أختي "والقصد أنه تخلف عنهم، ليتم له الكيد بآلهتهم.

                                                                                                                                                                                                                                        ولهذا " تولوا عنه مدبرين " فلما وجد الفرصة؛ فراغ إلى آلهتهم أي: أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة، فقال متهكما بها ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون أي: فكيف يليق أن تعبد، وهي أنقص من الحيوانات، التي تأكل وتكلم، وهذه جماد لا تأكل ولا تكلم؟!

                                                                                                                                                                                                                                        فراغ عليهم ضربا باليمين أي: جعل يضربها بقوته ونشاطه، حتى جعلها جذاذا، إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون.

                                                                                                                                                                                                                                        (94-96 فأقبلوا إليه يزفون أي: يسرعون ويهرعون، يريدون أن يوقعوا به، بعدما بحثوا وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين

                                                                                                                                                                                                                                        وقيل لهم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم يقول: وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فوبخوه ولاموه، فقال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                        و قال هنا: أتعبدون ما تنحتون أي: تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فكيف تعبدونهم، وأنتم الذين صنعتموهم، وتتركون الإخلاص لله؟ الذي خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا أي: عاليا مرتفعا، وأوقدوا فيها النار فألقوه في الجحيم جزاء على ما فعل، من تكسير آلهتهم.

                                                                                                                                                                                                                                        وأرادوا به كيدا ليقتلوه أشنع قتلة فجعلناهم الأسفلين رد الله كيدهم في نحورهم، وجعل النار على إبراهيم بردا وسلاما.

                                                                                                                                                                                                                                        (99) ( و ) لما فعلوا فيه هذا الفعل، وأقام عليهم الحجة، وأعذر منهم، " قال إني ذاهب إلى ربي " أي: مهاجر إليه، قاصد إلى الأرض المباركة أرض الشام. سيهدين يدلني على ما فيه الخير لي، من أمر ديني ودنياي، وقال في الآية الأخرى: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1476 ] (100) رب هب لي ولدا يكون من الصالحين وذلك عندما أيس من قومه، ولم ير فيهم خيرا، دعا الله أن يهب له غلاما صالحا، ينفع الله به في حياته، وبعد مماته.

                                                                                                                                                                                                                                        (101) فاستجاب الله له وقال: فبشرناه بغلام حليم وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك، فإنه ذكر بعده البشارة بإسحاق، ولأن الله تعالى قال في بشراه بإسحاق فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فدل على أن إسحاق غير الذبيح، ووصف الله إسماعيل، عليه السلام بالحلم، وهو يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر والعفو عمن جنى.

                                                                                                                                                                                                                                        (102) فلما بلغ الغلام معه السعي أي: أدرك أن يسعى معه، وبلغ سنا يكون في الغالب أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، فقال له إبراهيم عليه السلام: إني أرى في المنام أني أذبحك أي: قد رأيت في النوم والرؤيا، أن الله يأمرني بذبحك، ورؤيا الأنبياء وحي فانظر ماذا ترى فإن أمر الله تعالى، لا بد من تنفيذه، فقال إسماعيل صابرا محتسبا، مرضيا لربه، وبارا بوالده: يا أبت افعل ما تؤمر أي: امض لما أمرك الله ستجدني إن شاء الله من الصابرين أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله.

                                                                                                                                                                                                                                        (103) فلما أسلما أي: إبراهيم وابنه إسماعيل، جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالا لأمر ربه، وخوفا من عقابه، والابن قد وطن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة ربه، ورضا والده، وتله للجبين أي: تل إبراهيم إسماعيل على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه.

                                                                                                                                                                                                                                        (104-105 وناديناه في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي: قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه إنا كذلك نجزي المحسنين في عبادتنا، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                        (106) إن هذا الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام لهو البلاء المبين أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل [ ص: 1477 ] عليه الصلاة والسلام لما وهبه الله لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وده ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم أي: صار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه إبراهيم، فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                        (108-109 وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم أي: وأبقينا عليه ثناء صادقا في الآخرين، كما كان في الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام، فإنه فيه محبوب معظم مثني عليه.

                                                                                                                                                                                                                                        سلام على إبراهيم أي: تحية عليه كقوله: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى

                                                                                                                                                                                                                                        (110) إنا كذلك نجزي المحسنين في عبادة الله، ومعاملة خلقه، أن نفرج عنهم الشدائد، ونجعل لهم العاقبة، والثناء الحسن.

                                                                                                                                                                                                                                        (111) إنه من عبادنا المؤمنين بما أمر الله بالإيمان به، الذين بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين، كما قال تعالى: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين

                                                                                                                                                                                                                                        (112) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين هذه البشارة الثانية بإسحاق، الذي من ورائه يعقوب، فبشر بوجوده وبقائه، ووجود ذريته، وكونه نبيا من الصالحين، فهي بشارات متعددة.

                                                                                                                                                                                                                                        (113) وباركنا عليه وعلى إسحاق أي: أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما، فنشر الله من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة: أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل، وأمة الروم من ذرية إسحاق. ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين أي: منهم الصالح والطالح، والعادل والظالم الذي تبين ظلمه بكفره وشركه، ولعل هذا من باب دفع الإيهام، فإنه لما قال: [ ص: 1478 ] وباركنا عليه وعلى إسحاق اقتضى ذلك البركة في ذريتهما، وأن من تمام البركة أن تكون الذرية كلهم محسنين، فأخبر الله تعالى أن منهم محسنا وظالما، والله أعلم.



                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية