الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا

                                                                                                                                                                                                                                        أجل الكتب وأفضلها وأعلاها هذا الكتاب المبين، والذكر الحكيم، فإن ذكر فيه الأخبار كانت أصدق الأخبار وأحقها، وإن ذكر فيه الأمر والنهي كانت أجل الأوامر والنواهي، وأعدلها وأقسطها، وإن ذكر فيه الجزاء والوعد والوعيد كان [ ص: 1000 ] أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة والعدل والفضل، وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون كان المذكور فيه أكمل من غيره وأفضل، ولهذا كثيرا ما يبدئ ويعيد في قصص الأنبياء، الذين فضلهم على غيرهم، ورفع قدرهم، وأعلى أمرهم، بسبب ما قاموا به من عبادة الله ومحبته، والإنابة إليه، والقيام بحقوقه، وحقوق العباد، ودعوة الخلق إلى الله، والصبر على ذلك، والمقامات الفاخرة، والمنازل العالية، فذكر الله في هذه السورة جملة من الأنبياء، يأمر الله رسوله أن يذكرهم؛ لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم، وبيان فضله وإحسانه إليهم، وفيه الحث على الإيمان بهم ومحبتهم، والاقتداء بهم، فقال: (41) واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا جمع الله له بين الصديقية والنبوة، فالصديق: كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به، وذلك يستلزم العلم العظيم، الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لليقين، والعمل الصالح الكامل، وإبراهيم - عليه السلام - هو أفضل الأنبياء كلهم بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وهو الذي دعا الخلق إلى الله، وصبر على ما ناله من العذاب العظيم، فدعا القريب والبعيد، واجتهد في دعوة أبيه، مهما أمكنه. (42) وذكر الله مراجعته إياه، فقال: إذ قال لأبيه مهجنا له عبادة الأوثان: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ؛ أي: لم تعبد أصناما، ناقصة في ذاتها، وفي أفعالها، فلا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا، بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع، ولا تقدر على شيء من الدفع، فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلا وشرعا. ودل تنبيهه وإشارته أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال، الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه، ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو، وهو الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                        (43) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ؛ أي: يا أبت لا تحقرني، وتقول: إني ابنك، وإن عندك ما ليس عندي، بل قد أعطاني الله من العلم ما لم يعطك، والمقصود من هذا قوله: فاتبعني أهدك صراطا سويا ؛ أي: مستقيما معتدلا، وهو: عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته في جميع الأحوال. وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ما لا يخفى، فإنه لم يقل: "يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل" أو "ليس عندك من العلم شيء" وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي [ ص: 1001 ] وعندك علما، وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.

                                                                                                                                                                                                                                        (44) يا أبت لا تعبد الشيطان ؛ لأن من عبد غير الله فقد عبد الشيطان، كما قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين إن الشيطان كان للرحمن عصيا فمن اتبع خطواته، فقد اتخذه وليا، وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان. وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن إشارة إلى أن المعاصي تمنع العبد من رحمة الله، وتغلق عليه أبوابها، كما أن الطاعة أكبر الأسباب لنيل رحمته. (45) ولهذا قال: يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ؛ أي: بسبب إصرارك على الكفر، وتماديك في الطغيان فتكون للشيطان وليا ؛ أي: في الدنيا والآخرة، فتنزل بمنازله الذميمة، وترتع في مراتعه الوخيمة، فتدرج الخليل - عليه السلام - بدعوة أبيه، بالأسهل فالأسهل، فأخبره بعلمه، وأن ذلك موجب لاتباعك إياي، وأنك إن أطعتني اهتديت إلى صراط مستقيم، ثم نهاه عن عبادة الشيطان، وأخبره بما فيها من المضار، ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله، وأنه يكون وليا للشيطان. (46) فلم ينجع هذا الدعاء بذلك الشقي، وأجاب بجواب جاهل، وقال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم فتبجح بآلهته التي هي من الحجر والأصنام، ولام إبراهيم عن رغبته عنها، وهذا من الجهل المفرط، والكفر الوخيم، يتمدح بعبادة الأوثان، ويدعو إليها. لئن لم تنته ؛ أي: عن شتم آلهتي، ودعوتي إلى عبادة الله لأرجمنك ؛ أي: قتلا بالحجارة واهجرني مليا ؛ أي: لا تكلمني زمانا طويلا. (47) فأجابه الخليل جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين، ولم يشتمه، بل صبر، ولم يقابل أباه بما يكره، وقال: سلام عليك ؛ أي: ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب وبما تكره، سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ؛ أي: لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة، بأن يهديك للإسلام، الذي تحصل به المغفرة، فإنه كان بي حفيا؛ أي: رحيما رءوفا بحالي، معتنيا بي، فلم يزل يستغفر الله له رجاء أن يهديه الله، فلما تبين له أنه عدو لله، وأنه لا يفيد فيه شيئا ترك الاستغفار له، وتبرأ منه.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1002 ] وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم، فمن اتباع ملته: سلوك طريقه في الدعوة إلى الله بطريق العلم والحكمة واللين والسهولة، والانتقال من رتبة إلى رتبة، والصبر على ذلك، وعدم السآمة منه، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق بالقول والفعل، ومقابلة ذلك بالصفح والعفو، بل بالإحسان القولي والفعلي.

                                                                                                                                                                                                                                        (48) فلما أيس من قومه وأبيه قال: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ؛ أي: أنتم وأصنامكم وأدعو ربي وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ؛ أي: عسى الله أن يسعدني بإجابة دعائي، وقبول أعمالي، وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم - فاتبعوا أهواءهم، فلم تنجع فيهم المواعظ، فأصروا في طغيانهم يعمهون - أن يشتغل بإصلاح نفسه، ويرجو القبول من ربه، ويعتزل الشر وأهله.

                                                                                                                                                                                                                                        (49) ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه من أشق شيء على النفس؛ لأمور كثيرة معروفة، ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر، وكان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، واعتزل إبراهيم قومه، قال الله في حقه: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا من إسحاق ويعقوب جعلنا نبيا فحصل له ولهؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس، الذين خصهم الله بوحيه، واختارهم لرسالته، واصطفاهم من العالمين.

                                                                                                                                                                                                                                        (50) ووهبنا لهم ؛ أي: لإبراهيم وابنيه من رحمتنا وهذا يشمل جميع ما وهب الله لهم من الرحمة، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والذرية الكثيرة المنتشرة، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون. وجعلنا لهم لسان صدق عليا وهذا أيضا من الرحمة التي وهبها لهم؛ لأن الله وعد كل محسن أن ينشر له ثناء صادقا بحسب إحسانه، وهؤلاء من أئمة المحسنين، فنشر الله الثناء الحسن الصادق غير الكاذب، العالي غير الخفي، فذكرهم ملأ الخافقين، والثناء عليهم ومحبتهم امتلأت بها القلوب، وفاضت بها الألسنة، فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور متجددة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1003 ]

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية