الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى

                                                                                                                                                                                                                                        (24) لما أوحى الله إلى موسى، ونبأه، وأراه الآيات الباهرات، أرسله إلى فرعون، ملك مصر، فقال: اذهب إلى فرعون إنه طغى ؛ أي: تمرد وزاد على الحد في الكفر والفساد والعلو في الأرض، والقهر للضعفاء، حتى إنه ادعى الربوبية والألوهية، قبحه الله، أي: وطغيانه سبب لهلاكه، ولكن من رحمة الله وحكمته وعدله أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة بالرسل. (25) فحينئذ علم موسى - عليه السلام - أنه تحمل حملا عظيما، حيث أرسل إلى هذا الجبار العنيد، الذي ليس له منازع في مصر من الخلق، وموسى - عليه السلام - وحده، وقد جرى منه ما جرى من القتل، فامتثل أمر ربه، وتلقاه بالانشراح والقبول، وسأله المعونة وتيسير الأسباب، التي هي من تمام الدعوة، فقال: رب اشرح لي صدري ؛ أي: وسعه وأفسحه؛ لأتحمل الأذى القولي والفعلي، ولا يتكدر قلبي بذلك، ولا يضيق صدري؛ فإن الصدر إذا ضاق لم يصلح صاحبه لهداية الخلق ودعوتهم، قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم-: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، وعسى الخلق يقبلون الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                        (26) ويسر لي أمري ؛ أي: سهل علي كل أمر أسلكه، وكل طريق أقصده في سبيلك، وهون علي ما أمامي من الشدائد، ومن تيسير الأمر أن ييسر للداعي أن يأتي جميع الأمور من أبوابها، ويخاطب كل أحد بما يناسب له، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله.

                                                                                                                                                                                                                                        (27 -28 واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وكان في لسانه ثقل لا يكاد يفهم عنه الكلام، كما قال المفسرون، كما قال الله عنه: إنه قال: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فسأل الله أن يحل منه عقدة؛ يفقهوا ما يقول، فيحصل المقصود التام من المخاطبة والمراجعة والبيان عن المعاني.

                                                                                                                                                                                                                                        (29 -30 واجعل لي وزيرا من أهلي ؛ أي: معينا يعاونني ويؤازرني [ ص: 1024 ] ويساعدني على من أرسلت إليهم، وسأل أن يكون من أهله؛ لأنه من باب البر، وأحق ببر الإنسان قرابته، ثم عينه بسؤاله فقال هارون أخي . (31 -32 اشدد به أزري ؛ أي: قوني به، وشد به ظهري، قال الله: سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ، وأشركه في أمري ؛ أي: في النبوة بأن تجعله نبيا رسولا كما جعلتني.

                                                                                                                                                                                                                                        (33 -34) ثم ذكر الفائدة في ذلك فقال: كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا : علم - عليه الصلاة والسلام - أن مدار العبادات كلها والدين على ذكر الله، فسأل الله أن يجعل أخاه معه يتساعدان ويتعاونان على البر والتقوى، فيكثر منهما ذكر الله من التسبيح والتهليل وغيره من أنواع العبادات.

                                                                                                                                                                                                                                        (35) إنك كنت بنا بصيرا تعلم حالنا وضعفنا وعجزنا وافتقارنا إليك في كل الأمور، وأنت أبصر بنا من أنفسنا وأرحم، فمن علينا بما سألناك وأجب لنا فيما دعوناك.

                                                                                                                                                                                                                                        (36) فقال الله قد أوتيت سؤلك يا موسى ؛ أي: أعطيت جميع ما طلبت، فسنشرح صدرك، ونيسر أمرك، ونحل عقدة من لسانك يفقهوا قولك، ونشد عضدك بأخيك هارون: ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون .

                                                                                                                                                                                                                                        وهذا السؤال من موسى - عليه السلام - يدل على كمال معرفته بالله وكمال فطنته ومعرفته للأمور وكمال نصحه، وذلك أن الداعي إلى الله المرشد للخلق - خصوصا إذا كان المدعو من أهل العناد والتكبر والطغيان - يحتاج إلى سعة صدر وحلم تام على ما يصيبه من الأذى، ولسان فصيح يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده، بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام من ألزم ما يكون؛ لكثرة المراجعات والمراوضات، ولحاجته لتحسين الحق وتزيينه بما يقدر عليه؛ ليحببه إلى النفوس، وإلى تقبيح الباطل وتهجينه؛ لينفر عنه، ويحتاج - مع ذلك أيضا - أن يتيسر له أمره، فيأتي البيوت من أبوابها، ويدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، يعامل الناس كلا بحسب حاله، وتمام ذلك أن يكون لمن هذه صفته أعوان ووزراء يساعدونه على مطلوبه؛ لأن الأصوات إذا كثرت لا [ ص: 1025 ] بد أن تؤثر؛ فلذلك سأل - عليه الصلاة والسلام - هذه الأمور فأعطيها.

                                                                                                                                                                                                                                        وإذا نظرت إلى حالة الأنبياء المرسلين إلى الخلق رأيتهم بهذه الحال، بحسب أحوالهم، خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال، وله من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وفصاحة اللسان، وحسن التعبير والبيان، والأعوان على الحق من الصحابة فمن بعدهم ما ليس لغيره.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية