الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء:

                                                                                                                                                                                                                                      الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا. وأحل الله البيع وحرم الربا. فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله. ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يمحق الله الربا ويربي الصدقات. والله لا يحب كل كفار أثيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها الحملة المفزعة، والتصوير المرعب:

                                                                                                                                                                                                                                      لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..

                                                                                                                                                                                                                                      وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة.. صورة الممسوس [ ص: 324 ] المصروع.. وهي صورة معروفة معهودة للناس. فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس، لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي; ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة.. وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها. بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة.. ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة. هو القيام يوم البعث. ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا. ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله. ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي. وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية وتصورات أهل الجاهلية عنها..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان: ربا النسيئة. وربا الفضل.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة : إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر الجصاص : "إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة. فكانت الزيادة بدلا من الأجل. فأبطله الله تعالى" ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام الرازي في تفسيره: "إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية. لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله. فإذا حل طالبه برأس ماله. فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل".

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ورد في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا إلا في النسيئة ..

                                                                                                                                                                                                                                      أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة. كبيع الذهب بالذهب. والدراهم بالدراهم. والقمح بالقمح. والشعير بالشعير.. وهكذا.. وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به; ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا.. وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة!.

                                                                                                                                                                                                                                      عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح.. مثلا بمثل.. يدا بيد.. فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 325 ] وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "من أين هذا؟" قال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع. فقال: أوه! عين الربا. عين الربا. لا تفعل. ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية.

                                                                                                                                                                                                                                      وهي: الزيادة على أصل المال. والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة.. وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد. أي: ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا..

                                                                                                                                                                                                                                      وأما النوع الثاني، فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة. وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد.. ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية، إذ يلد التمر التمر! فقد وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالربا. ونهى عنه. وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد. ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا. إبعادا لشبح الربا من العملية تماما!.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك شرط القبض: يدا بيد .. كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل، ولو من غير زيادة، فيه شبح من الربا، وعنصر من عناصره!.

                                                                                                                                                                                                                                      إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشبح الربا في أية عملية. وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة - بالاستناد إلى حديث أسامة ، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية. وأن يحلوا - دينيا - وباسم الإسلام! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية!.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية.. فالإسلام ليس نظام شكليات. إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل. فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة.

                                                                                                                                                                                                                                      إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره; ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته. وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا!.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام . سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكالا جديدة. ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية، أو تتسم بسمة العقلية الربوية.. وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة. وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث. شعور الحصول على الربح بأية وسيلة!.

                                                                                                                                                                                                                                      فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدا. ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي.

                                                                                                                                                                                                                                      الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم - وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب - إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 326 ] عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال: "هم سواء" ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكان هذا في العمليات الربوية الفردية. فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون. معرضون لحرب الله. مطرودون من رحمته بلا جدال.

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة.. وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية، فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالا للشك أبدا..

                                                                                                                                                                                                                                      إن العالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطراب والخوف; والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار. وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك!.

                                                                                                                                                                                                                                      إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة. وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة؟

                                                                                                                                                                                                                                      إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى; ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما.. في أمريكا ، وفي السويد ، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا.. أن الناس ليسوا سعداء.. أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة. وفي "التقاليع" الغريبة الشاذة تارة. وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة. ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب. الهرب من أنفسهم. ومن الخواء الذي يعشش فيها! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها. فيهربون بالانتحار.

                                                                                                                                                                                                                                      ويهربون بالجنون. ويهربون بالشذوذ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا! لماذا؟

                                                                                                                                                                                                                                      السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح.. من الإيمان.. من الاطمئنان إلى الله.. وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير.. بلاء الربا.. بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها. إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة; ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بها [ ص: 327 ] الجميع; والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع; والتي تهيئ طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع.. ولكن هدفه هو إنتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح - ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا!.

                                                                                                                                                                                                                                      وصدق الله العظيم: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ..

                                                                                                                                                                                                                                      وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم!.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريم الربا. اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية:

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا. وأحل الله البيع وحرم الربا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت الشبهة التي ركنوا إليها، هي أن البيع يحقق فائدة وربحا، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا.. وهي شبهة واهية. فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة. والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة. أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الفارق الرئيسي. وهذا هو مناط التحريم والتحليل..

                                                                                                                                                                                                                                      إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده.. ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة!. 50 وأحل الله البيع وحرم الربا ...

                                                                                                                                                                                                                                      لانتفاء هذا العنصر من البيع; ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية; وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية; دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية:

                                                                                                                                                                                                                                      فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه. فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله، يحكم فيه بما يراه.. وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته; فيظل يتوجس من الأمر حتى يقول لنفسه: كفاني هذا الرصيد من العمل السيئ، ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت. فلا أضف إليه جديدا بعد! .. وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه، ويعمقه في القلوب; ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد، وجهل الموعد، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا; ويقرر أن الصدقات - لا الربا - هي التي تربو وتزكو; ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم. ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين: [ ص: 328 ] يمحق الله الربا، ويربي الصدقات، والله لا يحب كل كفار أثيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وصدق وعيد الله ووعده. فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة.. إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء. وقد ترى العين - في ظاهر الأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد. وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد; وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده. ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم. حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة; كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال!.

                                                                                                                                                                                                                                      وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منها والمبروك للتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه، والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها.. ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في مالهم ورزقهم، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية، هم الذين لا يريدون أن يروا. لأن لهم هوى في عدم الرؤية! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت; فضغطوا عن رؤية الحقيقة!.

                                                                                                                                                                                                                                      والله لا يحب كل كفار أثيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي - بعد تحريمه - من الكفار الآثمين، الذين لا يحبهم الله. وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة: لا إله إلا الله. محمد رسول الله.. فالإسلام ليس كلمة باللسان; إنما هو نظام حياة ومنهج عمل; وإنكار جزء منه كإنكار الكل.. وليس في حرمة الربا شبهة; وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم.. والعياذ بالله..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية