الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      102 - ثم ماذا؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم العلهم قد لاذوا بما هو خير منه؟ ألعلهم قد لجؤوا إلى حق لا شبهة فيه؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه؟ كلا.. لا شيء من هذا كله.

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة.

                                                                                                                                                                                                                                      واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا. يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر. فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه - وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله - ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان ، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان ، إذ يقولون: إنه كان ساحرا، وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه.

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن ينفي عن سليمان - عليه السلام - أنه كان ساحرا ، فيقول:

                                                                                                                                                                                                                                      وما كفر سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                      فكأنه يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان - عليه السلام - ويثبته للشياطين:

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين: هاروت وماروت . اللذين كان مقرهما بابل :

                                                                                                                                                                                                                                      وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما، وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس، ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا. فرية تنزيل السحر على الملكين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يبين الحقيقة، وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة. وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء إليهما، طالبا منهما أن يعلماه السحر:

                                                                                                                                                                                                                                      وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفرا ويذكر هذا على لسان الملكين: هاروت [ ص: 96 ] وماروت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما، على الرغم من تحذيره وتبصيره. وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين:

                                                                                                                                                                                                                                      فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان..

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله :

                                                                                                                                                                                                                                      وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ..

                                                                                                                                                                                                                                      فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشئ آثارها وتحقق نتائجها .. وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما. وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق. ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله. فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها كما وقع لإبراهيم - عليه السلام - وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، ينشئ هذا الأثر بإذن الله. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها.. وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار.. كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله، فهو يعمل بهذا الإذن، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون، وما يفرقون به بين المرء وزوجه.. إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير:

                                                                                                                                                                                                                                      ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا نفع فيه! ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب..

                                                                                                                                                                                                                                      فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة:

                                                                                                                                                                                                                                      ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      103 - ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وينطبق هذا القول على الذين كانوا يتعلمون السحر من الملكين ببابل ، وعلى الذين يتبعون ما تقصه الشياطين عن عهد سليمان وملكه، وهم اليهود الذين ينبذون كتاب الله وراءهم ظهريا، ويتبعون هذا الباطل وهذا الشر الذميم.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر، وعما يفرق بين المرء وزوجه، مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه، ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد. لقد [ ص: 97 ] سمي بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها! .. هذا " التيلياثي " - التخاطر عن بعد - ما هو؟

                                                                                                                                                                                                                                      وكيف يتم؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره، فيتلقى عنه، دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد؟

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة، وأن يتصل فكر بفكر، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر، وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر، كأنما يقرأ من كتاب مفتوح؟

                                                                                                                                                                                                                                      إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها، هو أن أعطاها أسماء! ولكنه لم يقل قط: ما هي؟ ولم يقل قط كيف تتم؟

                                                                                                                                                                                                                                      وثمة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم. إما لأنه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه. هذه الأحلام التنبئية - وفرويد الذي يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار وجودها - كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول، ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟ وهذه الأحاسيس الخفية التي ليس لها اسم بعد. كيف أحس أن أمرا ما سيحدث بعد قليل أو أن شخصا ما قادم بعد قليل ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء! إنه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشري، لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرب بها هذه القوى.

                                                                                                                                                                                                                                      وليس معنى هذا هو التسليم بكل خرافة، والجري وراء كل أسطورة.. إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا.. لا ينفي على الإطلاق ولا يثبت على الإطلاق، حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه أو يسلم بأن في الأمر شيئا فوق طاقته، ويعرف حدوده، ويحسب للمجهول في هذا الكون حسابه..

                                                                                                                                                                                                                                      السحر من قبيل هذه الأمور. وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور. وقد تكون صورة من صوره:

                                                                                                                                                                                                                                      القدرة على الإيحاء والتأثير، إما في الحواس والأفكار، وإما في الأشياء والأجسام.. وإن كان السحر الذي ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له : " فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " - ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه، وبين الصديق وصديقه. فالانفعالات تنشأ من التأثرات. وإن كانت الوسائل والآثار، والأسباب والمسببات، لا تقع كلها إلا بإذن الله، على النحو الذي أسلفنا.

                                                                                                                                                                                                                                      أما من هما الملكان: هاروت وماروت ؟ ومتى كانا ببابل ؟ فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود . بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها. وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين بها وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض، ولم يكن هنالك ما يدعو إلى تفصيل أكثر. لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا أحب أن نجري نحن - في ظلال القرآن - خلف الأساطير الكثيرة التي وردت حول قصة الملكين. فليست هنالك رواية واحدة محققة يوثق بها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد مضى في تاريخ البشرية من الآيات والابتلاءات ما يناسب حالتها وإدراكها في كل طور من أطوارها.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا جاء الاختيار في صورة ملكين - أو في صورة رجلين طيبين كالملائكة - فليس هذا غريبا ولا شاذا بالقياس إلى شتى الصور وشتى الابتلاءات الخارقة، التي مرت بها البشرية، وهي تحبو، وهي تخطو، وهي تقفو [ ص: 98 ] أشعة الشعلة الإلهية المنيرة في غياهب الليل البهيم! والمفهومات الواضحة المحكمة في هذه الآيات تغني عن السعي وراء المتشابه فيها بالقياس إلينا بعد ذلك الزمن المديد. وحسبنا أن نعلم منها ضلال بني إسرائيل في جريهم وراء الأساطير ، ونبذهم كتاب الله المستيقن، وأن نعرف أن السحر من عمل الشيطان وأنه من ثم كفر يدان به الإنسان، ويفقد به في الآخرة كل نصيب وكل رصيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية