الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والآن نجيء إلى الابتلاء بالضراء في قصة أيوب عليه السلام:

                                                                                                                                                                                                                                      وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم، رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2392 ] وقصة ابتلاء أيوب من أروع قصص الابتلاء. والنصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل. وهي في هذا الموضع تعرض دعاء أيوب واستجابة الله للدعاء. لأن السياق سياق رحمة الله بأنبيائه، ورعايته لهم في الابتلاء. سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم، كما في قصص إبراهيم ولوط ونوح . أو بالنعمة في قصة داود وسليمان . أو بالضر كما في حال أيوب..

                                                                                                                                                                                                                                      وأيوب هنا في دعائه لا يزيد على وصف حاله: أني مسني الضر .. ووصف ربه بصفته: وأنت أرحم الراحمين . ثم لا يدعو بتغيير حاله، صبرا على بلائه، ولا يقترح شيئا على ربه، تأدبا معه وتوقيرا. فهو نموذج للعبد الصابر لا يضيق صدره بالبلاء، ولا يتململ من الضر الذي تضرب به الأمثال في جميع الأعصار . بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله إليه، اطمئنانا إلى علمه بالحال وغناه عن السؤال.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة، وكانت الرحمة، وكانت نهاية الابتلاء: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      رفع عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح. ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم، ورزقه مثلهم. وقيل هم أبناؤه فوهب الله له مثليهم. أو أنه وهب له أبناء وأحفادا.

                                                                                                                                                                                                                                      رحمة من عندنا فكل نعمة فهي رحمة من عند الله ومنة. وذكرى للعابدين . تذكرهم بالله وبلائه، ورحمته في البلاء وبعد البلاء. وإن في بلاء أيوب لمثلا للبشرية كلها; وإن في صبر أيوب لعبرة للبشرية كلها. وإنه لأفق للصبر والأدب وحسن العاقبة تتطلع إليه الأبصار.

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة للعابدين بمناسبة البلاء إشارة لها مغزاها. فالعابدون معرضون للابتلاء والبلاء. وتلك تكاليف العبادة وتكاليف العقيدة وتكاليف الإيمان. والأمر جد لا لعب. والعقيدة أمانة لا تسلم إلا للأمناء القادرين عليها، المستعدين لتكاليفها وليست كلمة تقولها الشفاه، ولا دعوى يدعيها من يشاء. ولا بد من الصبر ليجتاز العابدون البلاء..

                                                                                                                                                                                                                                      بعد ذلك يشير السياق مجرد إشارة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل :

                                                                                                                                                                                                                                      وإسماعيل وإدريس وذا الكفل. كل من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو عنصر الصبر كذلك يشير إليه في قصص هؤلاء الرسل.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما إسماعيل فقد صبر على ابتلاء ربه له بالذبح فاستسلم لله وقال: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إدريس فقد سبق إن زمانه مجهول وكذلك مكانه، وإن هنالك قولا بأنه، أوزوريس الذي عبده المصريون بعد موته، وصاغوا حوله الأساطير. بوصف المعلم الأول للبشر، الذي علمهم الزراعة والصناعة!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2393 ] ولكننا لا نملك على هذا دليلا. فلنعلم أنه كان من الصابرين على نحو من أنحاء الصبر الذي يستحق التسجيل في كتاب الله الباقي.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ذو الكفل فهو كذلك مجهول لا نملك تحديد زمانه ولا مكانه. والأرجح أنه من أنبياء بني إسرائيل. وقيل: إنه من صالحيهم، وأنه تكفل لأحد أنبيائهم قبل موت هذا النبي، بأن يخلفه في بني إسرائيل على أن يتكفل بثلاث: أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب في القضاء. فوفى بما تكفل به وسمي ذا الكفل لذاك - ولكن هذه ليست سوى أقوال لا دليل عليها. والنص القرآني يكفي في هذا الموضع لتسجيل صفة الصبر لذي الكفل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين .. وهذا هو المقصود بذكرهم في هذا السياق.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تجيء قصة يونس - عليه السلام - وهو ذو النون .

                                                                                                                                                                                                                                      وذا النون إذ ذهب مغاضبا. فظن أن لن نقدر عليه. فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم. وكذلك ننجي المؤمنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقصة يونس تأتي هنا في صورة إشارة سريعة مراعاة للتناسق في السياق، وتفصل في سورة الصافات. ولكن لا بد لنا من بعض التفصيل هنا لهذه الإشارة كي تكون مفهومة.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد سمي ذا النون - أي صاحب الحوت - لأن الحوت التقمه ثم نبذه. وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدرا، وغادرهم مغاضبا، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم. ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض، فهي فسيحة، والقرى كثيرة، والأقوام متعددون. وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك معنى فظن أن لن نقدر عليه أي أن لن نضيق عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقاده غضبه الجامح، وضيقه الخانق، إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها. حتى إذا كانت في اللجة ثقلت، وقال ربانها: إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق. فساهموا فجاء السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو بنفسه. فالتقمه الحوت. مضيقا عليه أشد الضيق! فلما كان في الظلمات: ظلمة جوف الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل نادى: أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجاب الله دعاءه، ونجاه من الغم الذي هو فيه. ولفظه الحوت على الساحل. ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات. فحسبنا هذا في هذا السياق.

                                                                                                                                                                                                                                      إن في هذه الحلقة من قصة يونس - عليه السلام - لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات.

                                                                                                                                                                                                                                      إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدرا بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضبا، ضيق الصدر، حرج النفس; فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين. ولولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه. لما فرج الله عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا. ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون حمل [ ص: 2394 ] الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا. ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا.

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة.. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب!

                                                                                                                                                                                                                                      إن طريق الدعوات ليس هينا لينا. واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب. ولا بد من إزالة هذا الركام. ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة. ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة. ومن محاولة العثور على العصب الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود!

                                                                                                                                                                                                                                      وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال.. إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهابا وإيابا فتخطئ المحطة وأنت تدقق وتصوب. ثم إذا حركة عابرة من يدك. فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام!

                                                                                                                                                                                                                                      إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق. ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال!

                                                                                                                                                                                                                                      إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس.. إنه عمل مريح، قد يفثأ الغضب، ويهدئ الأعصاب.. ولكن أين هي الدعوة؟ وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين؟!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية! فليضق صدره. ولكن ليكظم ويمض. وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الداعية أداة في يد القدرة. والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله. والهدى هدى الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن في رحمة الله لذي النون واستجابة دعائه المنيب في الظلمات لبشرى للمؤمنين: وكذلك ننجي المؤمنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية