الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب تبديل الوصية .

قال الله سبحانه وتعالى : فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه قيل : إن الهاء التي في قوله : " فمن بدله " عائدة على الوصية ، وجائز فيها التذكير ؛ لأن الوصية ، والإيصاء واحد . وأما الهاء في قوله : " إثمه " فإنما هي عائدة على التبديل المدلول عليه بقوله : " فمن بدله " . وقوله : فمن بدله بعدما سمعه يحتمل أن يريد به الشاهد على الوصية ، فيكون معناه زجره عن التبديل ، على نحو قوله تعالى : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويحتمل أن يريد الوصي ؛ لأنه هو المتولي لإمضائها ، والمالك لتنفيذها ، فمن أجل ذلك قد أمكنه تغييرها .

ويبعد أن يكون ذلك عموما في سائر الناس ؛ إذ لا مدخل لهم في ذلك ، ولا تصرف لهم فيه ، [ ص: 210 ] وهو عندنا على المعنيين الأولين من الشاهد والوصي لاحتمال اللفظ لهما ، والشاهد إذا احتيج إليه مأمور بأداء ما سمع على وجهه من غير تغيير ولا تبديل ، والوصي مأمور بتنفيذها على حسب ما سمعه مما تجوز الوصية به . وروي عن عطاء ومجاهد قالا : " هي الوصية تصيب الولي الشاهد " . ، وقال الحسن : " هي الوصية من سمع الوصية ثم بدلها بعدما سمعها فإنما إثمها على من بدلها " .

قال أبو بكر : وجائز أن يكون الحاكم مرادا بذلك لأن له فيه ولاية وتصرفا إذا رفع إليه ، فيكون مأمورا بإمضائها إذا جازت في الحكم منهيا عن تبديلها ، وفيها الأمر بإمضائها وتنفيذها على الحق والصدق . وقوله : فمن بدله بعدما سمعه قد اقتضى جواز تنفيذ الوصي ما سمعه من وصية الموصي ، كان عليها شهود أو لم تكن .

وهو أصل في كل من سمع شيئا فجائز إمضاؤه عند الإمكان على مقتضاه وموجبه من غير حكم حاكم ، ولا شهادة شهود فقد دل على أن الميت متى أقر بدين لرجل بعينه عند الوصية فجائز له أن يقضيه من غير علم وارث ولا حاكم ولا غيره لأن في تركه ذلك بعد السماع تبديلا لوصية الموصي .

وقوله : فإنما إثمه على الذين يبدلونه قد حوى معاني :

أحدها : أنه معلوم أن ذلك عطف على الوصية المفروضة كانت للوالدين والأقربين ، وهي لا محالة مضمرة فيه ، لولا ذلك لم يستقم الكلام لأن قوله : فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لما انتظم من الكناية والضمير اللذين لا بد لهما من مظهر مذكور ، وليس في الآية مظهر غير ما تقدم ذكره في أولها ، وإذا كان كذلك فقد أفادت الآية سقوط الفرض عن الموصي بنفس الوصية ، وأنه لا يلحقه بعد ذلك من مأثم التبديل شيء بعد موته .

وفيه دلالة على بطلان قول من أجاز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم ، وهو نظير قوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وقد دلت الآية أيضا على أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه أنه قد برئ من تبعته في الآخرة ، وأن ترك الورثة قضاءه بعد موته لا يلحقه تبعة ولا إثم ، وأن إثمه على من بدله دون من أوصى به . وفيه الدلالة على أن من كان عليه زكاة ماله فمات ولم يوص به أنه قد صار مفرطا مانعا مستحقا لحكم مانعي الزكاة ؛ لأنها لو كانت قد تحولت في المال حسب تحول الديون لكان بمنزلة من أوصى بها عند الموت فينجو من مأثمها ، ويكون حينئذ المبدل لها مستحقا لمأثمها .

وكذلك حكى الله تعالى عن مانع الزكاة عند الموت سؤال الرجعة في قوله : [ ص: 211 ] وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين فأخبر بحصول التفريط وفوات الأداء ، إذ لو كان الأداء باقيا على الوارث أو الوصي من ميراث الميت لكانوا هم المستحقين للوم والتعنيف في تركه وكان الميت خارجا عن حكم التفريط ، فدل ذلك على صحة ما وصفنا من امتناع وجوب أداء زكاته من ميراثه من غير وصية منه به .

فإن قيل : هل يفترق حكم الموصي عند الله في حال تنفيذ وصيته أو تبديلها ، وهل يكون ما يستحقه من الثواب في الحالين سواء ؟ قيل له : إن وصية الموصي قد تضمنت شيئين :

أحدهما : استحقاقه الثواب على الله بوصيته ، والآخر : أن وصول ذلك إلى الموصى له يستوجب منه الشكر لله والدعاء للموصي ، وذلك لا يكون ثوابا للموصي ولكن الموصي يصل إليه من دعاء الموصى له وشكره لله تعالى جزاء له لا للموصي ، فينتفع الموصي بذلك من وجهين : إذا أنفذت الوصية ، ومتى لم تنفذ كان نفعه مقصورا على الثواب الذي استحقه بوصيته دون غيرها .

فإن قيل : فمن كان عليه دين فلم يوص بقضائه وقضاه الورثة هل يبرأ الميت من تبعته ؟ قيل له : امتناعه من قضاء الدين قد تضمن شيئين .

أحدهما : حق الله تعالى ، والآخر : حق الآدمي ؛ فإذا استوفى الآدمي حقه فقد برئ من تبعته وبقي من حق الآدمي ما أدخل عليه من الظلم والضرر بتأخيره ، فإذا لم يتب منه كان مؤاخذا به في الآخرة وبقي حق الله ، وهو الظلم الواقع منه في حياته لم تكن توبة منه فيه ، فهو مؤاخذ به فيما بينه وبين الله تعالى ؛ ألا ترى أن من غصب من رجل مالا ، وأصر على منعه كان مكتسبا بذلك المأثم من وجهين :

أحدهما : حق الله بارتكاب نهيه ، والآخر : حق الآدمي بظلمه له وإضراره به ؟ فلو أن الآدمي أخذ حقه منه من غير إرادة الغاصب لذلك لكان قد برئ من حقه وبقي حق الله يحتاج إلى التوبة منه ، فإذا مات غير تائب كانت تبعته باقية عليه لاحقة به وقوله تعالى : فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إنما هو فيمن بدل ذلك إذا وقع على وجه الصحة والجواز والعدل ، فأما إذا كانت الوصية جورا فالواجب تبديلها وردها إلى العدل ، قال الله تعالى : غير مضار وصية من الله فإنما تنفذ الوصية إذا وقعت عادلة غير جائرة .

وقد بين الله تعالى ذلك في الآية التي تليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية