الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر قال أبو بكر : ظاهره يقتضي جواز الإفطار لمن لحقه الاسم سواء كان الصوم يضر أو لا ؛ إلا أنا لا نعلم خلافا أن المريض الذي لا يضره الصوم غير مرخص له في الإفطار ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " إذا خاف أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر " .

وقال مالك في الموطأ : " من أجهده الصوم أفطر وقضى ولا كفارة عليه ، والذي سمعته أن المريض إذا أصابه المرض وشق عليه فيه الصيام فيبلغ منه ذلك ، فله أن يفطر ويقضي " قال مالك : " وأهل العلم يرون على الحامل إذا اشتد عليها الصيام الفطر والقضاء ويرون ذلك مرضا من الأمراض " . وقال الأوزاعي : " أي مرض إذا مرض الرجل حل له الفطر ، فإن لم يطق أفطر ، فأما إذا أطاق وإن شق عليه فلا يفطر " .

وقال الشافعي : " إذا [ ص: 216 ] ازداد مرض المريض شدة زيادة بينة أفطر ، وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر " . فثبت باتفاق الفقهاء أن الرخصة في الإفطار للمريض موقوفة على زيادة المرض بالصوم ، وأنه ما لم يخش الضرر فعليه أن يصوم . ويدل على أن الرخصة في الإفطار للمريض متعلقة بخوف الضرر ما روى أنس بن مالك القشيري عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع ومعلوم أن رخصتهما موقوفة على خوف الضرر على أنفسهما أو على ولديهما ، فدل ذلك على أن جواز الإفطار في مثله متعلق بخوف الضرر إذ الحامل والمرضع صحيحتان لا مرض بهما .

وأبيح لهما الإفطار لأجل الضرر .

وأباح الله تعالى للمسافر الإفطار ، وليس للسفر حد معلوم في اللغة يفصل به بين أقله وبين ما هو دونه ، فإذا كان ذلك كذلك وقد اتفقوا على أن للسفر المبيح للإفطار مقدارا معلوما في الشرع واختلفوا فيه ، فقال أصحابنا : " مسيرة ثلاثة أيام ولياليها " وقال آخرون : " مسيرة يومين " وقال آخرون : " مسيرة يوم " ولم يكن للغة في ذلك حظ ؛ إذ ليس فيها حصر أقله بوقت لا يجوز النقصان منه ؛ لأنه اسم مأخوذ من العادة ، وكل ما كان حكمه مأخوذا من العادة فغير ممكن تحديده بأقل القليل ؛ وقد قيل إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف من قولهم " سفرت المرأة عن وجهها ، وأسفر الصبح إذا أضاء ، وسفرت الريح السحاب إذا قشعته " والمسفرة المكنسة ؛ لأنها تسفر عن الأرض بكنس التراب ، وأسفر وجهه إذا أضاء وأشرق ، ومنه قوله تعالى : وجوه يومئذ مسفرة يعني مشرقة مضيئة ؛ فسمي الخروج إلى الموضع البعيد سفرا ؛ لأنه يكشف عن أخلاق المسافر وأحواله ؛ ومعلوم أنه إذا كان معنى السفر ما وصفنا أن ذلك لا يتبين في الوقت اليسير واليوم واليومين ؛ لأنه قد يتصنع في الأغلب لمثل هذه المسافة فلا يظهر فيه ما يكشفه البعيد من أخلاقه ، فإن اعتبر بالعادة علمنا أن المسافة القريبة لا تسمى سفرا والبعيدة تسمى ، إلا أنهم اتفقوا على أن الثلاثة سفر صحيح فيما يتعلق به من أحكام الشرع .

فثبت أن الثلاث سفر وما دونها لم يثبت لعدم معنى الاسم فيه وفقد التوقيف والاتفاق بتحديده . وأيضا قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تقتضي اعتبار الثلاث في كونها سفرا في أحكام الشرع ، فمنها حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تسافر امرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم واختلف الرواة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : " ثلاثة أيام " وقال بعضهم : " يومين " فهذه الألفاظ [ ص: 217 ] المختلفة قد رويت في حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم .

واختلف أيضا عن أبي هريرة ، فروى سفيان عن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم وروى كثير بن زيد ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا نساء المؤمنات لا تخرج امرأة من مسيرة ليلة إلا مع ذي محرم وكل واحد من أخبار أبي سعيد وأبي هريرة إنما هو خبر واحد اختلفت الرواة في لفظه ، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أحوال ، فالواجب أن يكون خبر الزائد أولى وهو الثلاث ؛ لأنه متفق على استعماله وما دونها مختلف فيه فلا يثبت لاختلاف الرواة فيه .

وأخبار ابن عمر لا اختلاف فيها ، فهي ثابتة وفيها ذكر الثلاث ، ولو أثبتنا ذكر أخبار أبي سعيد وأبي هريرة على اختلافها لكان أكثر أحوالها أن تتضاد ، وتسقط كأنها لم ترد ، وتبقى لنا أخبار ابن عمر في اعتبار الثلاث من غير معارض .

فإن قيل : أخبار أبي سعيد وأبي هريرة غير متعارضة ؛ لأنا نثبت جميع ما روي فيها من التوقيت ، فنقول : لا تسافر يوما ولا يومين ولا ثلاثة . قيل له : متى استعملت ما دون الثلاث فقد ألغيت الثلاث وجعلت ورودها وعدمها بمنزلة ، فأنت غير مستعمل لخبر الثلاث مع استعمالك خبر ما دونها ، وإذا لم يكن إلا استعمال بعضها وإلغاء البعض فاستعمال خبر الثلاث أولى لما فيه من ذكر الزيادة ؛ وأيضا قد يمكن استعمال الثلاث مع إثبات فائدة الخبر في اليوم واليومين ، وهو أنها متى أرادت سفر الثلاث لم تخرج اليوم ولا اليومين من الثلاث إلا مع ذي محرم وقد يجوز أن يظن ظان أنه لما حد الثلاث فمباح لها الخروج يوما أو يومين مع غير ذي محرم وإن أرادت سفر الثلاث ، فأبان صلى الله عليه وسلم حظر ما دونها متى أرادتها .

وإذا ثبت تقدير الثلاث في حظر الخروج إلا مع ذي محرم ثبت ذلك تقديرا في إباحة الإفطار في رمضان من وجهين :

أحدهما : أن كل من اعتبر في خروج المرأة الثلاث اعتبرها في إباحة الإفطار ، وكل من قدره بيوم أو يومين كذلك قدره في الإفطار .

والوجه الآخر : أن الثلاث قد تعلق بها حكم وما دونها لم يتعلق به حكم في الشرع ، فوجب تقديرها في إباحة الإفطار ؛ لأنه حكم متعلق بالوقت المقدر ، وليس فيما دون الثلاث حكم يتعلق به ، فصار بمنزلة خروج ساعة من النهار . وأيضا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في المسح للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ، ومعلوم أن ذلك ورد مورد بيان الحكم لجميع المسافرين ؛ لأن ما ورد [ ص: 218 ] مورد البيان فحكمه أن يكون شاملا لجميع ما اقتضى البيان من التقدير ، فما من مسافر إلا وهو الذي يكون سفره ثلاثا ، ولو كان ما دون الثلاث سفرا في الشرع لكان قد بقي مسافر لم يتبين حكمه ولم يكن اللفظ مستوعبا لجميع ما اقتضى البيان وذلك يخرجه عن حكم البيان .

ومن جهة أخرى أن المسافر اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه ، فما من مسافر إلا وقد انتظمه هذا الحكم ، فثبت أن من خرج عنه فليس بمسافر يتعلق بسفره حكم ، وفي ذلك أوضح الدلالة على أن السفر الذي يتعلق به الحكم هو سفر ثلاث وأن ما دونه لا حكم له في إفطار ولا قصر .

ومن جهة أخرى أن هذا الضرب من المقادير لا يؤخذ من طريق المقاييس ، وإنما طريق إثباته الاتفاق والتوقيف ، فلما عدمنا فيما دون الثلاث الاتفاق والتوقيف وجب الوقوف عند الثلاث لوجود الاتفاق فيه أنه سفر يبيح الإفطار . وأيضا لما كان لزوم فرض الصوم هو الأصل واختلفوا في مدة رخصة الإفطار ، لم يجز لنا عند الاختلاف ترك الفرض إلا بالإجماع وهو الثلاث ؛ لأن الفروض يحتاط لها ، ولا يحتاط عليها ؛ وقد روي عن عبد الله بن مسعود وعمار وابن عمر أنه لا يفطر في أقل من الثلاث .

التالي السابق


الخدمات العلمية