الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين اختلف الفقهاء من السلف في تأويله ، فروى المسعودي عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال : " أحيل الصيام على ثلاثة أحوال ثم أنزل الله : كتب عليكم الصيام إلى قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا وأجزى عنه ، ثم أنزل الله الآية الأخرى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه فأثبت الله تعالى صيامه على المقيم الصحيح ، ورخص فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام .

وعن عبيد الله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة في قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال : " كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكينا ، حتى نزل : فمن شهد منكم الشهر فليصمه

وروي فيه وجه آخر ، وهو ما روى عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي كرم الله وجهه قال : " من أتى عليه رمضان وهو مريض أو مسافر فليفطر وليطعم كل يوم مسكينا صاعا ، فذلك قوله وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين .

ووجه آخر ، وهو ما روى منصور عن مجاهد عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها : " وعلى الذين [ ص: 219 ] يطوقونه فدية طعام مسكين " قال : " الشيخ الكبير الذي كان يطيق الصوم وهو شاب فأدركه الكبر وهو لا يستطيع أن يصوم من ضعف ، ولا يقدر أن يترك الطعام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع " .

وعن سعيد بن المسيب مثله وكانت عائشة تقرأ : " وعلى الذين يطوقونه " . وروى خالد الحذاء عن عكرمة أنه كان يقرأ : وعلى الذين يطيقونه قال " إنها ليست بمنسوخة " .

وروى الحجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : وعلى الذين يطيقونه قال : " الشيخ والشيخة " . قال أبو بكر : فقالت الفرقة الأولى من الصحابة والتابعين ، وهم الأكثرون عددا " إن فرض الصوم بديا نزل على وجه التخيير لمن يطيقه بين الصيام وبين الفدية ، وإنه نسخ عن المطيق بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقالت الفرقة الثانية : " هي غير منسوخة ، بل هي ثابتة على المريض والمسافر يفطران ويقضيان وعليهما الفدية مع القضاء " .

وكان ابن عباس وعائشة وعكرمة وسعيد بن المسيب يقرءونها : " وعلى الذين يطوقونه " فاحتمل هذا اللفظ معاني ، منها : ما بينه ابن عباس أنه أراد الذين كانوا يطيقونه ثم كبروا فعجزوا عن الصوم فعليهم الإطعام . والمعنى الآخر : أنهم يكلفونه على مشقة فيه ، وهم لا يطيقونه لصعوبته ، فعليهم الإطعام .

ومعنى آخر ؛ وهو أن حكم التكليف يتعلق عليهم وإن لم يكونوا مطيقين للصوم فيقوم لهم الفدية مقام ما لحقهم من حكم تكليف الصوم ، ألا ترى أن حكم تكليف الطهارة بالماء قائم على المتيمم ، وإن لم يقدر عليه حتى أقيم التراب مقامه ، ولولا ذلك لما كان التيمم بدلا منه .

وكذلك حكم تكليف الصلاة قائم على النائم والناسي في باب وجوب القضاء لا على وجه لزمه بالترك ، فلما أوجب تعالى عليه الفدية في حال العجز والإياس عن القضاء أطلق فيه اسم التكليف بقوله : وعلى الذين يطيقونه إذ كانت الفدية هي ما قام مقام غيره .

فالقراءتان على هذا الوجه مستعملتان إلا أن الأولى ، وهي قوله : وعلى الذين يطيقونه لا محالة منسوخة لما ذكره من روينا عنه من الصحابة وأخبارهم عن كيفية الفرض وصفته بديا ، وأن المطيق للصوم منهم كان مخيرا بين الصيام والإفطار والفدية . وليس هذا من طريق الرأي ؛ لأنه حكاية حال شاهدوها وعلموا أنها بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليها .

وفي مضمون الخطاب من أوضح الدلالة على ذلك ما لو لم يكن معنا رواية عن السلف في معناه لكان كافيا في الإبانة عن مراده ، وهو قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فابتدأ تعالى ببيان حكم المريض والمسافر وأوجب عليهما [ ص: 220 ] القضاء إذا أفطرا ، ثم عقبه بقوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فغير جائز أن يكون هؤلاء هم المرضى والمسافرين ؛ إذ قد تقدم ذكر حكمهما وبيان فرضهما بالاسم الخاص لهما ، فغير جائز أن يعطف عليهما بكناية عنهما مع تقديمه ذكرهما منصوصا معينا ؛ ومعلوم أن ما عطف عليه فهو غيره ؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه .

ويدل على أن المراد المقيمون المطيقون للصوم ، أن المريض المذكور في الآية هو الذي يخاف ضرر الصوم ، فكيف يعبر عنه بإطاقة الصوم ، وهو إنما رخص له لفقد الإطاقة وللضرر المخوف منه ؟ ويدل على ذلك ما ذكره في نسق التلاوة من قوله تعالى : وأن تصوموا خير لكم وليس الصوم خيرا للمريض الخائف على نفسه ، بل هو في هذه الحال منهي عن الصوم .

ويدل على أن المريض والمسافر لم يرادا بالفدية وأنه لا فدية عليهما ، أن الفدية ما قام مقام الشيء ، وقد نص الله تعالى على إيجاب القضاء على المريض والمسافر ، والقضاء قائم مقام الفرض فلا يكون الإطعام حينئذ فدية وفي ذلك دلالة على أنه لم يرد بالفدية المريض والمسافر ، بقوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين منسوخ بما قدمنا .

وهذه الآية تدل على أن أصل الفرض كان الصوم ، وأنه جعل له العدول عنه إلى الفدية على وجه البدل عن الصوم ؛ لأن الفدية ما يقوم مقام الشيء ، ولو كان الإطعام مفروضا في نفسه كالصوم على وجه التخيير لما كان بدلا كما أن المكفر عن يمينه بما شاء من الثلاثة الأشياء لا يكون ما كفر به منها بدلا ولا فدية عن غيرها .

وإن حمل معناه على قول من قال : " المراد به الشيخ الكبير " لم يكن منسوخا ولكن يحتاج إلى ضمير ، وهو " وعلى الذين كانوا يطيقونه ثم عجزوا بالكبر مع اليأس عن القضاء " وغير جائز إثبات ذلك إلا باتفاق أو توقيف .

ومع ذلك فيه إزالة اللفظ عن حقيقته وظاهره من غير دلالة تدل عليه ، وعلى أن في حمله على ذلك إسقاط فائدة قوله : وعلى الذين يطيقونه لأن الذين كانوا يطيقونه بعد لزوم الفرض ، والذين لحقهم فرض الصوم وهم عاجزون عنه بالكبر سواء في حكمه ، ويحمل معناه على أن الشيخ الكبير العاجز عن الصوم الميئوس من القضاء عليه الفدية ، فسقط فائدة قوله : وعلى الذين يطيقونه إذ لم يتعلق فيه بذكر الإطاقة حكم ولا معنى .

وقراءة من قرأ : " يطوقونه " يحتمل الشيخ الميئوس منه القضاء من إيجاب الفدية عليه ؛ لأن قوله " يطوقونه " قد اقتضى تكليفهم حكم الصوم مع مشقة شديدة عليهم في فعله وجعل لهم الفدية قائمة مقام الصوم ؛ فهذه القراءة إذا كان معناها ما وصفنا فهي غير [ ص: 221 ] منسوخة بل هي ثابتة الحكم ؛ إذ كان المراد بها الشيخ الميئوس منه القضاء العاجز عن الصوم ، والله الموفق بمنه وكرمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية